الأطباء فعالجه إلى أن عوفي فانبسط له وأسبغ عليه ذيل الرضى وأسبل عليه ثوب النعمة وفتح له خزانة كتبه فوجد بها الطبيب الحكيم خير مجال لرغبة الدرس وأرحب ميدان لطلب العلم واستقى من تلك الينابيع العذبة ما شاء إقباله عليها. وقد حدث أن احترقت خزانة الكتب فإنهم ابن سينا بأنه حرقها رغبة في أن يتفرد بما وعته من الحكمة وخشية أن ينتفع بما حوته سواه. وقد مات الأمير نوح بعد ذلك بقليل عام ٣٨٧ هـ وفي هذا العهد كان قد مضى على وفاة الفارابي حوالي (٤٨) عاماً فكيف يسعى ابن سينا للقيا؟ وهل موت الفارابي حادثة طفيفة يتوقع أن لا تصل إلى مسامع ابن سينا وهو عاشق الفلسفة لدؤوب لتحصيلها؟ ومع ذلك فإننا لا تنغلق باب الاحتمال ونجوز صدق الرواية ولا نكذب احتمال عدم اطلاع ابن سينا على وفاة الفارابي الأمر، الذي حمله على أن يعقد عزمه على الاتصال به؛ ذلك لأن ابن سينا في هذا العهد كان يعيش في شرقي البلاد الإسلامية في بخاري، أما الفارابي فقد توفي في دمشق، فإذا أضفنا إلى بعد المسافة تقطع الأسفار لوعورة الطرق ووحشتها مضافاً إلى ذلك أنه لم يكن الفارابي الفيلسوف المتصوف المنقطع عن الناس بذائع الصيت حينئذ - كل ذلك مما يجوز صدق أقصوصة عزم ابن سينا على الاستمتاع بفضل الفارابي عن كثب وسفره في طلب الشيخ العميق التفكير والقصة على كل حال وحتى مع تقدير كذبها تدل على سمو مكانه الفارابي في أذهان المؤلفين في تلك العصور فهم ينقلون خبر عزم ابن سينا على شد الرحال أو قيامه بالسفر حقيقة للاستفادة من علمه ولا يجدون في ذلك غرابة؛ بل إن فضل الفارابي في رأيهم يستحق أن يقصده رواد العلم من أمثال ابن سينا من أقاصي البلاد فضلاً عن أدناها.