للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أما الموقف الذي أذكره له مع أحد رؤساء الوزارة، فقد مضى عليه أكثر من عشر سنين، وغيب الذين شهدوه في عالم غير هذا العالم، ونحن اليوم في حل من إيراده بشيء من الإيجاز

فقد جاء أحد (المخبرين) لأنطون (بك) الجميل بنبأ في شهر سبتمبر عام ١٩٤٠ مؤداه أن الجيش الإيطالي اقتحم الحدود المصرية من جهة الغرب، وتريث الجميل كعادته، فلم يشأ نشر الخبر لوقته وإنما أرجاه يوما أو يومين، ثم عرضه على وزير الحربية، وأجازته الرقابة فنشره، وإذ بصر به رئيس الوزارة حينئذ - وهو المغفور له حسن صبري باشا - هاج هائجه ونسى الصداقة الوثيقة التي تربطه بأنطوان الجميل وكتب بلاغا (رسميا) قاسى اللهجة لاذع الأسلوب يرمى فيه كاتب الخبر بالتزيد وإثارة الخواطر.

ولم يفعل أنطون الجميل شيئاً إزاء هذا التحدي إلا أن أشهد وزير الحربية على صحة الخبر، ثم بدأ تحديه لرئيس الوزارة فمنع نشر أبناء مقابلاته وحفلاته، وكان ينشر اجتماع مجلس الوزراء مجرداً من ذكر اسم رئيس الوزراء، ويطوف رئيس الحكومة في البلاد فلا يذكر عنه شيئاً، وتنشر صور الوزراء جميعاً وتحذف صورة كبيرهم!

وهكذا، وهكذا، حتى ضاق المغفور له حسن صبري باشا ذرعا، وبذل الوساطات والشفاعات لدى أنطون الجميل، حتى أنه أرسل إليه يقول: أرجو أن تشتمني في جريدتك وتقول في ما قال مالك في الخمر، أما أن تمهل ذكر اسني مرة واحدة فهذا ما لا طاقة لي باحتماله.

وتدخل المرحوم عبد الحميد سليمان في المصالحة، وشرط أنطون الجميل باشا أن يعد بنفسه بلاغا (رسميا) يدحض فيه البلاغ الأول، وكان، وأعاد أنطون الجميل نشر اسم حسن صبري باشا رئيس الوزارة بعد أن أهمله ثمانية عشر يوما!

ومات أنطون الجميل في حدود الخامسة والستين عزبا لم يتزوج، وقيل أنه كان مبخلا، أو هكذا رماه خصومه، وقال لنا واحد ممن تجمعه به آصرة القربى أنه خلف ثروة تتجاوز مئتي ألف جنيه، ولا نعلم مبلغ الصندوق في ذلك فقد كنا نعرف في أنطون الجميل أنه يعيش كما كان يعيش المتصوفة الأولى يأكل بمقدار ويشرب بمقدار، ولا لا يسرف، إنما يضيق عليها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>