للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أسير في موكبه طائعاً ذليلاً. . . قبل أن أكون سيد ضميري وعبد إرادتي، قبل أن أكون من راكبي الآثام والموبقات. . . قبل تنتصر جيوش الرذيلة الفاتكة على فلول الفضيلة المنحدرة. . .

والآن. . . وفي هذه اللحظات، وبعد هذا الانقلاب الفجائي، حلفت نفسي تفتيش عن طريق المتاب، تريد أن تحرق دموع الندم على عتبات المستقبل القريب.

وتلفت حولي في أرجاء المكان، وهناك امتدت نظراتي تفتش عن منفذ للخلاص، عن طريق مستقيم، عن منقذ جبار أفزع إليه بعد إخفاق الأماني. . . فرأيت صديقي، ذلك الشيطان قد نحر نفسه خائباً على عتبة هذا المخدع الذي ارتفعت في فضائه ألحان التوبة والغفران، من قلوب طهرتها الأيام وغسلتها دموع الندم والاعتراف.

وعاودت أنظر إلى صاحبتي، فرأيتها تبكي بدموع غزيرة راحت تتساقط كاللؤلؤ المنثور على خديها وتنساب على وسادتها. . . يا لها من دموع طاهرة نقية. يا لها من لحظة عصبية كشفت أمامي سر هذه الروح المعذبة الملتاعة، هذه الروح التي صفدتها أغلال الغواية، أغلال الإنسان الآثم الجاحد. . . هذه الروح التي هصرتها يد الطغاة الظالمين، فتركتها نفاية حقيرة ملقاة في زوايا النسيان.

وطغت على موجة من الإشفاق والحنان، موجة استحوذت على كيان وشغلت أحاسيسي، فصممت على أمر عظيم، أمر أقل ما يوصف به إنه عمل إنساني يثلج له صدري، وأستحق عليه مرضاة وجه ربي ومغفرته، لعله يمحو ما بذمتي من عقوق وكفران! فأمسكت بيدها ورفعتها إلى فمي لأطبع عليها قبلات حري، قبلات استفزت فيها عصى الدموع، تلك الدموع التي كنت أضن بها يضن الشحيح على كنزه. وتلفتت نحوي كأنها تستجير بي، كأنها تريد أن تقول لي: أهرب بي من هذا الأتون المتهب، من هذا الجحيم المسعور. . . هيا. . . هيا.

ولم أشعر بعد ذاك، إلا أنني أمسك بيدها وأخرج بها مسرعاً من الدار، كما لو كانت ترقبنا ألف عين، وتتسمع إلينا ألف أذن. . . وكان الليل يجود بأنفاسه الأخيرة، والشوارع توشك أن تقفر إلا من رواد الظلام، وعشاق الحانات، وفرسان الشهوات والآثام. . .

وغبنا في ثنايا الطريق، ورحنا نقطع الدروب على هدى ضوء باهر انبثق من قلبينا

<<  <  ج:
ص:  >  >>