أشرنا في أطواء كلامنا السابق إلى أن البشر قد تجذبهم إلى سعادتهم أو شقاوتهم (جواذب) وإن شئت سميتها (عوامل): من مثل الملة التي يمارسون شعائرها وأحكامها، والحكومة التي تسيطر عليهم، والعائلة التي تربي أطفالهم. والمدرسة التي تعلم أبناءهم، والمحفل أو النادي الذي يحتشدون فيه للحديث أو السمر أو اللهو أو البيع والشراء أو مختلف الأعمال والمصالح - فالمراد من المحفل أو النادي ما يريده علماء التربية بقولهم (جماعة الأصدقاء والمعاشرين) - والوراثة التي تنقل إلى أبدانهم دم آبائهم ومزاجهم وتكوينهم الجسماني، كما تنقل إلى نفوسهم طباع أولئك الآباء وغرائزهم وأخلاقهم وتكوينهم الروحاني، والإقليم الذي يشربون ماءه، ويستنشقون هواءه، ويذوقون حره وبرده، ويقتاتون بمحصولاته. وهذا المؤثر يسميه علماء علم النفس (البيئة الجغرافية)، ويسمون العوامل الأخرى (البيئة الاجتماعية).
هذه (الجواذب) أو (العوامل) هي التي تعمل في تكوين الأمم، وهي التي تعرف بها حالتها الاجتماعية، ودرجتها في سلم المدنية؛ فإن صلحت تلك العوامل واستقامت صلحت الأمم واستقامت في أفرادها وجماعاتها؛ إذ ليست الجماعات إلا فرداً متكرراً، وإن ساءت وفسدت ساءت أحوال الأمم، وانحط شأنها، وتقهقر عمرانها.
هذه الجواذب هي التي تجتذب البشر إلى ملابسة الخير أو مواقعة الشر؛ وتقودهم من أيديهم إلى مواطن السعادة، أو مواطن الشقاوة، وهي التي نستدل بها، ونمشي على أثرها في معرفة ما هو قضاء الله وقدره في هذه الأمة، أو تلك الأمة.
فمهما رأينا من كمال تلك العوامل وسدادها، وثبات أمرها، وحسن نظامها - فهناك فوز الأمة وفلاحها، وتجلى حكم القضاء والقدر فيها. ومهما رأينا من نقص (العوامل) وخطلها، واضطراب أمرها، وقبح نظامها - فهناك هلاك الأمة ودمارها، وحكم القضاء والقدر فيها.
هذه العوامل هي التي يعنى بها الأنبياء والحكماء والمشرعون والعلماء الاجتماعيون، فيجتهدون في إصلاحها، وتقويم أودها؛ حباً في إصلاح أممهم، وترقية شأن شعوبهم، ولم يأل الدين الإسلامي في النصح لأبنائه بوجوب توفيرها وتنقيتها من الشوائب؛ كي تبقى صالحة لسعادتهم في دنياهم، ونجاتهم في أخراهم.
قد يقال: إذا كانت هذه العوامل هي مظهر قضاء الله وقدره في البشر، وعلى سلمها ينزلهم