ويسمى عندهم (العذبة). وكم كان لطعم المرطب (ابيلاتي) الذي قدم لنا هناك لذة أية لذة؛ وعلى الأخص حينما كنا نسرح الطرف آماداً بعيدة جوالاً على تعاريج الأمواج الزاخرة، ثم يرتد إلى محيط النادي ذي الغرابة والسحر.
قضينا بجدة يوماً ممتعاً. وفي اليوم التالي وافتنا السيارات لتقلنا إلى مكة، فسارت بنا في طريق وعر، تحف بها من جانبيها جبال شاهقة وهضاب مرتفعة؛ قد اختلفت مادة ولوناً. وها نحن نرتفع إلى أعلى وقد اهتزت بنا السيارة مجتازة أحد النتوء في الطريق، ثم نهبط تبعاً لانحدارها المفاجئ. ثم إذا بها تدور فنميل حتى تتلامس الرءوس، وقد انهلعت قلوبنا فرقاً.
وأخيراً تعود السيارة سيرتها المستقيمة، ويطغى على خوفنا اطمئنان يزجيه الإيمان.
حتى بلغنا مكة. وكانت هذه أولى قدحات زناد إيماننا.
إن أي عالم نفساني لا يستطيع أن يدرك مدى تلك السعادة الروحية التي شعرنا بها ونحن نمر بأبواب الحرم الشريف في طريقنا إلى منزل (المطوف) الذي ما كدنا ندخله حتى دعا الداعي إلى (طواف القدوم)، فأسرعنا كأطفال في يوم عيد تطفح وجوهنا بشراً، لمحته أنا في كل وجه حتى في وجوه الشيوخ منا. وسرنا وراء (المدعى) نردد تلبياته وابتهالاته واستغفارا ته، بصوت خاشع منيب، فيه رنة تنفذ إلى القلوب في رهبة، وتحفز الأرواح لتلهج بها الألسنة مرددة هذا الاستغفار والابتهال:(يا رب لقد جئتك من بلاد بعيدة، بذنوب كثيرة! رحمتك يا رب! غفران يا رب!) وكان (المدعى) يمد الباء الأخيرة في (يا رب) فتصل إلى غور عميق من النفس.
ودخلنا من (باب السلام) إلى بيت الله الحرام، ووقفنا تجاه الكعبة قانتين. ودعونا الله أن يزيد بيته الحرام تشريفاً وتكريماً، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنبنا وما تأخر، ثم دعونا بما نريد من مطالب الدنيا؛ إذ قيل لنا: إن الله يستجيب ما يطلبه المرء في هذا المكان. وإذا بي لا أجدني طالبة من الله إلا أن يسهل لي الطواف ولمس الحجر الأسعد (الأسود).
وإذ نوينا الطواف أسرعنا وسط الجموع الزاخرة، يدفعنا الموج الآدمي من مختلف الشعوب والأمم. يتزاحمون ويتدافعون بالمناكب، كل مشغول بنفسه؛ كأنهم في يوم الحشر بين يدي الديان.