وليس يكفي أن تكون عين العدالة في يقظة لتحقق الأمانة العامة، وإنما ينبغي أن ينبغي أن تمتد يدها بالبطش غلى الجريمة، وإلا أفلت اللص بما سرق، وذهبت صرخات المطاردين أدراج الرياح، كما أنا تستلزم الفطنة في المييز بين السارق والمسروق، فقد نقبض بيد الحديد على برئ، ونطق سراح أثيم خادع الأمين العام فاندس في صفوف المطاردين، وهم يتراكضون خلف السارق المزعوم، فلما أعياهم اللحاق به نكص هو على عقبيه، ليقتسم الأسلوب مع الأبالسة.
وهيهات أن تتسرب شاذة أو فاذة من الأمانة العامة، إذا ألقت شباكها في الماء العكر، فهي إنما تتعقب كل من يعكر صفو السلام، مهما يكن لونه ومقامه، وإلا فإن قطع ذنب الأفعى لا يغني عن رأس الفتنة شيئاً. والجراثيم لا تتكاثر إلا إذا كانت درجة الحرارة مناسبة والمكان صالحاً، وعندئذ يتعسر اداء، ويتعذر الدواء.
ولما كان الخط المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، فإن الأمانة العمة هي أقوم خط بين الحق والباطل، وليس بينهما منطقة اشتباه، (فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال.) وليس حولهما كذلك إلا صحاري لعدم، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم سبيله. .)، ولهذا كان التمادي في الانحراف خيانة طامة، عواقبها غير مأمونة.
وليس أخون من تنحية الجندي عن صفه، وتعطيله من سلاح، واتهامه بعد ذلك بالتخفيف عن كتائب الجهاد، ليحرم من مكانه في مواكب النصر، وهو الهاتف:
سلاحي إيماني العتيد، وقائدي ... ضميري، وأجنادي من الشيم الغر
وهنا ننتظر الساعة التي فيها تتحطم الأهرام الثقيلة على قالبيها، ويومئذ يندمون على انصرافهم عن هدى (الأمين) المأمون عليه الصلاة والسلام إذ يقول: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل: فكيف إضاعتها يا رسول الله. قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وما كان أجدر أصحاب الحقول بحقوقهم حتى يستقيم الطريق، ويعتدل الميزان، وتعلو أصواتهم بالفخر المسنون:
وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأوفر حظنا قسامها