طائفة من الزمن ويداه صفر من المال، وبضاعته المزجاة ضربتها السوق بالبوار، فتبطلت أنامله عن لفق الثوب ومخيط الدثار.
وطفق يحدثني صاحبي عن مضانكه التي يلقاها في حياته وخصاصة موارده وعجف مكاسبه في أسلوب يستسقطر العبرات الغوالي، حتى لقد ذهب إلى أنه لا يصرف ذياك النهار ويتقدم مساؤه إلا وقد أتى الله على بنيان متجره من القواعد، أو أتى هو على مصاريعه الواحد تلو الآخر وتركه على عروشه خاوياً، وزين لي أن لو قد خرجت عن يد وجدت عليه من وفاضي الخاوي بجزء من عشرة من الدانق لتقبله مغتبطاً عطاء غير مردود ولا ممنون!
وإذ سادر شكايته، وأنا أصيخ غليه السمع متوجساً مستريباً على نكرة واستثقال، هبط علينا فتى أمرد تأخذه العين، تبدو عليه إمارات النعمة، ويبين النبل في أطرافه، ويضوع الطيب من أدرانه وأعطافه، فسلم ثم سلم على غير سابق استعراف، وجيء له بكرسي استوى عليه في استحياء الشباب، ثم أراد أن يبلغ الغاية من مبغاه، فذكر في صوت لا يكاد يبين أنه نازح عن هذه الديار فمتوجه تلقاء باريس في طلب أواسط العلم وأعاليه، وهذا ما قصد من أجله صاحبي الحائك، فهو يروم تجهيز أربعة أثواب على الأنماط الفرنجية، وراح يشرح في إسهاب فني لا يمت إلى علمه، بصلة، فهذا على صفة كيت وكيت، وهذا على هيئة ذيت وذيت، وهذا من الطراز الفلاني، وهذا حسب النموذج العلاني، وهكذا حتى استوفى بيانه الشافي وضرب موعداً لنتخاب طلبته لا يزيد على أسبوعين.
وبعد ما عاين صديقي الحائك جسد الفتى وسمته وقاسه من قدام ومن خلف، ومن يمين ومن شمال، تقدم غليه بالحساب الدقيق عن الأجر الذي يقتضيه لقاء صنعته، وما يستلحقها، وعند هذا الحد رأيت الشاب ينتزع حافظة نقوده من جيبه كلمح البصر، وينقد الحائك جملة من الدنانير خفي علي عديدها، وإن لم يخف علي ما أحدثت في نفس صاحبي من أثر إيجابي ما يقوى على وصفه حجر ولا يراع، فانبسطت غضون وجهه والتمعت حدقاته، وطار به الجذل أي مطار.
وما أن انصرف الشاب حتى نظر إلي صاحبي نظرة جمعت له الزمان كله، وكان أن هم بعناقي وكأن به جنة أو عراه هوس، ولكنه عاد يشرح لي مقدار تفاؤله بمقدمي إذ يسر له