للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالأيمن، وهم على الذكر عاكفون، وكانت تذهب بالكسل والنعاس عنهم، فكانوا لا ينصرفون حتى يصلوا صلاة الصبح مع الجماعة من غير عناء ولا تكلف. وانتشرت في الناس فاجتمعوا على شرابها في بيوت خاصة بها وفي الأسواق.

ومن هذا العهد ظلت القهوة بين مكة والقاهرة تحلل عاما وتحرم عاما، يناهضها حكام وفقهاء، ويشايعها حكام وفقهاء، تباح فتشرب في الحرم الشريف جهراً، وتمنع فيعزر شاربها ويطاف به في الأسواق، ويكبس العَسَس بيوتها ويخرجون من فيها عل حالة شنيعة، بعضهم في الحديد وبعضهم في الحبال، فيسجنون ويجلدون.

ولا شك أن المعارضين للقهوة كان منهم أناس يخلصون لها الكراهة في ذاتها لما كانوا يرون من أثرها السيئ فيمن أدمنها من عامة الناس، فكثير منهم من تغيرت حواسه وساء عقله وتنكرت هيئته.

ولأنها كانت تباع في أماكن على هيئة الحانات يجتمع فيها الناس من رجال ونساء بالدف والرباب، أو بالشطرنج والمنقلة، وغيرها يلعبونها للميسر، فساء الأتقياء هذا المنظر القبيح، ووقع مشهده من قلوبهم موقع سوء.

وكان من الناس من يدس الخمر في القهوة فزادت كراهتها عند العارفين بذلك.

أما الحكام ممن كرهوا القهوة، فكانت أغلب كراهتهم من اجتماع الناس على تلك الصورة؛ وأوجسوا من هذا التجمهر خيفة. ولما كان حفظ النظام من أوجب واجبات السلطان، ولما كانت الفتنة من عمل الشيطان، كان لا بد من قتلها قبل أوانها، ودرء بوادر السوء قبل استفحالها.

ولعل أقوى من ناصر القهوة في هذا الصراع مشايخ الصوفية في كل البقاع الإسلامية: أحبوا الذات الإلهية وفنوا فيها وتغزلوا وشببوا بها؛ وكأن الغزل لا يحلو إلا بالصهباء، والتشبيب لا يكون إلا مع بنت ألحان، فاتخذوا من القهوة خمرهم، ومن فناجينها كؤوسهم، وذكروها وأكثروا ذكرها في أشعارهم، فقال ابن الفارض (سقتني حميا الحب. . .) وقال آخر من الأولياء الصالحين يصفها:

شرابُ أهل الله فيها الشفا ... لطالب الحكمة بين العباد

نطبخها قشراً فتأتي لنا ... في نكهة المسك ولون المداد

<<  <  ج:
ص:  >  >>