التعمق في الدراسة والاستقراء نشأت الفلسفة الدينية وأخذت تجادل الكهنوت في أسرار الدين وتأويلاته وتحليلاته وأحكامه وتفاسيره.
ووجد الكهنوت في بعض الحالات أنفسهم في مأزق حرج فلم يكن استعدادهم الفكري ليتحمل هذا النقد؛ وذلك لأن حياة الكهنوت في عزلة عن الحياة اليومية، ولأن اللاهوت الذي وضع الكهنة على مدى الأجيال أسسه ومبادئه كان قد أهمل في كثير من الحالات مراعاة الحقائق الاجتماعية؛ ولذلك فقد وجد الفلاسفة من ورائهم علماء الطبيعة مآخذ على العقيدة الدينية كما يحفظها الكهنة ويبشرون بها ويعرضونها على سلوك الناس. واشتط الفلاسفة وعلماء الطبيعة في تهجمهم على الكهنة ولاهوتهم في تحيز أفسد عليهم الرشد والنزاهة؛ وأصبحت العقيدة الدينية بفضل هذا الصراع علماً على الإيمان الساذج سذاجة الجهل والتعصب الأعمى الذي تبثه ديكتاتورية الكهنوت في العقول الساذجة والقلوب القلقة نشأت. ولم تقتصر هذه الوصمة على الأديان التي تطورت من الخرافات والأساطير، وإنما شملت الأديان السماوية التي أوحى بها الله إلى رسله وأنبيائه.
وأصبحت الفلسفة ونظرة الطبيعيين إلى الحياة والممات علماً على التحرر الفكر الطليق. ولكن هذا الانطلاق (كما بينا في مستهل هذا البحث) لم يستطع أن يزعزع الإيمان الصادق أو أن يطوح بالغريزة الدينية والطمأنينة والاستقرار الذي يهيمن على من يختبرون في صدق الحياة الدينية. وبازدياد الصراع بين العقل والعقيدة الدينية ازدادت البلبلة الفكرية والفوضى الأخلاقية وتعرض المجتمع إلى مشكلات لم تكن الفلسفة ولا العلم الطبيعي مستعدين لمعالجتها.
فإذا نشأت في العالم اليوم نزعة إلى التوفيق بين الحياة الروحية والظواهر الطبيعية والحقائق الاجتماعية فما ذلك إلا لأن هذه الأمور جميعها تؤثر في حياة الفرد والمجتمع.
وسنحاول في الفصل القادم أن نتعرف جوهر العلاقات بين هذه الأمور متابعين البحث في النتائج الاجتماعية للاختيار الديني ومجارين بذلك هذا الاتجاه الجديد في التفكير العربي الذي أقلقه تطور العلوم الطبيعية التي قطعت صلاتها بالقيم الأخلاقية التي يبشر بها الدين فأنتجت القنابل الذرية والمشاكل النفسانية التي تعبث بمجتمع مفكك الأوصال مشحون بالفوضى والقلق.