وكل مستمع إلى خطب الجمع والأعياد يلمس ذلك كله لمساً تاماً. وكل دارس للتراث الإسلامي في الفقه والتشريع وما إليه يدرك ذلك من أول وهلة.
فالأزهر وغيره من معاقل العلوم الدينية لا يخرج كهنه، وإنما يؤهل طلبته انشر الدعوة الإسلامية وشرحها وتوضيحها للفرد وللجماعة الذين عاقتهم شؤون الحياة اليومية عن استذكار التعاليم الدينية وما انطوت عليه من حكم وموعظات.
فوظائف رجال الدين في الإسلام على تنوعها لا تتعدى الوعظ والتعليم والإفتاء، وكلها نشاط متمم للثقافة الدينية التي بدأها الحدث المسلم في سنه الباكرة.
وقد اتجهت البروتستانتية إلى الاقتداء بالإسلام في هذا المضمار. والواقع أن البروتستانتية في بعض أسسها الجوهرية لم تكن إلا ثورة على كهنوت الكنيسة وما أحدثه من ديكتاتورية دينية على النحو الذي يعرفه المطلعون على تعاليم لوثر وكالفين وجماعة الموحدين.
وخلو الإسلام من سلطة الكهنوت الروحية واهتمامه ببيان العقائد لا ينفي أن أحكامه تستوجب نوعاً آخر يراد به تنظيم السلطة الدينية وموقفها إزاء الفرد والجماعة وتنظيم علاقات الأفراد بعضها ببعض. فقد شرع الإسلام القصاص في القتل وغير ذلك من الجرائم، وشرع الدية وشرح كثيراً من أحكام الأسرة والمعاملات الشخصية. ولا يمكن أن يكون شرع هذه الأحكام لمجرد البيان والإرشاد دون الأمر بإقامتها والحكم بها في المحاكم الشرعية، وهي سلطة دينية تستمد وزنها وأحكامها من الشرع والتعاليم الإسلامية، ولكنها مع ذلك بعيدة كل البعد ومغايرة كل المغايرة لسلطة الكهنوت، فلكل فرد من المسلمين الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (والنكوص عنه مع القدرة عليه إثم عظيم) كما قال فضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية السابق في خلال النقاش عن السلطة الدينية وحقوقها وواجباتها.
ولنعد لصلب موضوعنا. رأينا مع (لاوي بروهل) كيف ينشأ الكهنوت من تركز السلطة الروحية في يد جماعة مختارة من الحافظين لتراث الدين المسجل، وكيف أن هذا الكهنوت بحكم احتكاره للمعرفة الدينية وحقوقها وواجباتها قد وضع ما يعرف في بعض الديانات بعلم (اللاهوت).
وحين خرج من قبضة الكهنوت احتكار المعرفة الدينية وأتيح لبعض النابهين من العية