وانتشرت دور العلم في ذلك العصر: فكان الجامع الأزهر أيام الفاطميين موطن دراسة الفقه الشيعي والمذهب الإسماعيلي، ونهضت دار الحكمة بالعلوم الفلسفية وربما كانت هذه العلوم تدرس بالأزهر كذلك؛ فقد كان الدعاة وهم أساتذة دار الحكمة يجلسون للتدريس في الجامع الأزهر أحيانا كثيرة؛ ولعل مذهب أهل السنة قد وجد سبيله إلى الأزهر في الأوقات التي ضعفت فيها حده الدعوة الإسماعيلي كما في عهد الأفضل والعادل بن السلار.
وإذا كان صلاح الدين قد ابطل الخطبة في الجامع الأزهر، وقضى على تدريس المذهب الشيعي فيه، فأن التدريس لم ينقطع منه، وها هوذا عبد اللطيف البغدادي يأتي أليه في العصر العادل، ويتردد عليه عشر سنين مستمعا إلى الأساتذة والمحاضرين حيناً، وقائماً بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار حيناً آخر. وعاد الأزهر إلى نشاطه في عهد جيرس ومن جاء بعده.
وإلى جانب الأزهر كان جامع عمرو ينهض بعبئه في نشر الثقافة وإذاعتها، فتعددت به حلقات العلم في مختلف فروع الثقافة، وكان له الأثر فيها أكبر مما للأزهر، لأن أحدا ًلم يحاربه؛ كما قامت بعض المساجد في أرجاء البلاد بنصيبها من النهضة الثقافية.
وفي الشام كان الجامع الأموي بدمشق يؤدي الرسالة التي يقوم بها جامع عمرو في القاهرة، وكانت دمشق أبعد من أن تنالها آمال الصليبيين، فظلت الحركة العلمية بجامعيها العتيد، ونهض جامع حلب بنصيب في نشر الثقافة أيضاً.
وشاهد ذلك العصر بناء المدارس وانتشارها في مصر والشام، فأنشئت بالإسكندرية في عصر الفاطميين مدرستان في عهد الحافظ واحدة، وفي عهد الظافر للسلفي أخرى. وفي الشام أخذ نور الدين ينشئ المدارس ويستدعي نوابغ العلماء من الأقطار يبني لهم المدارس في أرجاء إمارته، حتى إذا جاء صلاح الدين تأثر خطا سلفه، فأنشأ كثيراً من المدارس في أرجاء إمبراطوريته بمصر والشام؛ فمن ذلك الصلاحية بالقاهرة للشافعية ولعلها كانت أكبر مدرسة في عصرها، والقمحية للمالكية، والسيوفية للحنفية، والصلاحية بالقدس، وقد أحصى فقهاء مدارس دمشق في عهده، فكانوا ستمائة فقيه.
واقتدى بصلاح الدين خلفاؤه من الأيوبيين، ومن جاء بعدهم من سلاطين المماليك، وساهم