للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كرامة العقل، ولم يقدس صوتاً من الأصوات كما قدس صوت القلم؛ هذا الرجل يتغير هكذا سريعاً بين الأمس واليوم، ثم يطلب إلي أن ألقاه ليحاسبني على أنني قدست ما كان يقدسه، وتطلعت غلى ما كان يتطلع غليه، وآمنت بما كان يؤمن به؟! ولماذا يحاسبني؟ ألأنه وزير المعارف وأنا موظف بوزارة المعارف؟ وهب أنني كنت كاتب هذا المقال الذي لم أكتبه، فيا له من عجب أن يكون الرجل الذي يحاسب الأحرار. . . هو طه حسين!!

وامتدت يدي إلى القلم في عنف ثائر، ومضت تخط على ورقة بيضاء سطوراً أملتها الكرامة. . وطويت استقالتي لأقدمها لوزير المعارف في الموعد المرتقب، ولأقول له إذا ما لقيني بوجه عابس أو بصوت غاضب أو بثورة عاصفة: لا يا سيدي! هذه هي استقالتي بين يديك، واستقبلني بعد ذلك بوجه الأديب الكبير لا بوجه الوزير، أو بلسان المضيف السمح والرجل الكريم. . . يفتح بابه وقلبه لضيف عابر إن طرق الأبواب فهو لا يقيم!!

أشهد لقد كانت هذه هي خواطري التي تملأ آفاق النفس والحس قبل أن أبرح بيتي لأذهب إلى بيته، وأن هذه الخواطر قد صحبتني وأنا أقطع الطريق وأحث الخطى إلى هناك، إلى حيث ينتظرني حساب وعقاب. . . لقد كان يجلس وحده في حجرة المكتبة، وحين تجاوزت الباب وألقيت بتحية المساء، نهض طه حسين واقفاً ليصافحني بحرارة، حتى لقد هبت علي روح من الماضي البعيد نسمات. . وجلس وجلست، وأحضرت القهوة فشرب وشربت، وأخرج علبة سجائره ليقدم إلي واحدة تتبدد في الهواء دخانها وتتبدد معه الظنون!

وبعد عبارة ترحيب نبيلة أعقبتها مني كلمة شكر، بدأ طه حسين الحديث: (لقد قرأت لك منذ قريب مقالاً في (الرسالة) آلمني كل الألم، حتى لقد بعثت في طلبك لأعبر لك عن أسفي. . . ومصدر الأسف أنني كنت السبب المباشر أو غير المباشر في أن حرية الفكر قد صودرت، يوم أن خطر لك أن تهاجمني فحيل بينك وبين هذا الهجوم! لقد كان مقالك الذي عنيتني به تحت هذا العنوان: (مشكلتي مع الأستاذ الزيات). . . وقد فهمت أنني الوزير المقصود بتلك الكلمة، لأنك كنت تقول للقراء إن صديقك الزيات قد حذف مقالك، لأنه كان هجوماً عنيفاً على أحد الوزراء. وكنت تقول لهم أيضاً إن الزيات يشفق عليك من حماسة الشباب وفورة الشباب، وما يتبعهما من عنف القلم وجيشان العاطفة، ولهذا فقد حال بينك وبين حرية الرأي حرصاً منه على مستقبلك. وكنت تقول لهم مرة ثالثة إنك كاتب تعودت

<<  <  ج:
ص:  >  >>