ويلقي الرجل ما معه، ويمضي وهو لا يلوى على شيء، فتنفرج أسارير أم عمارة إذ تتناول الترس تحمي بها وجه رسول الله، وتظل تارة تترس دونه وتارة تعصب الجرحى، وتارة أخرى ترمي عن القوس، نبلا بعد نبل، وهي مع ذلك كله تستفز زوجها وأختها وولديها للنهوض والقتال، وتفرغ الماء في أفواه جرحى المسلمين، ويعجب النبي لهذه القدرة العجيبة وذلك المضاء الفائق بينما سائر الجيش يلوذون بالفرار، فينظر إلى أم عمارة فيقول لها: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟
وفجأة يلمح النبي رجلا في القوم ضرب عبد الله، ثم افنتل كالأفعوان إلى وكره الخبيث فيشير إليه النبي ويقول لأم عمارة: هذا ضارب ابنك، فتعاجله أم عمارة بضربة في ساقه، فيبرك حيث هو كالخيمة انقض عليها صاعق من السماء السابعة، ويتلوى على نفسه وله جعير كأنه الجمل الذبيح، ويبتسم النبي ويقول: استقدت يا أم عمارة. وبعينها طلحة على عدوها فيعلوه بسيفه حتى يجهز عليه.
ولم تكد أم عمارة ترى الرجل قتيلا حتى رجعت إلى وراء كأنما تبدي أسفها لرسول الله أن سبقها طلحة إلى غريمها، فلم يجعل الله مصرعه على يديها، ولكن النبي الكريم يبادرها بقوله مشجعا:
الحمد لله الذي ظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك. فيستريح بالها، وتطمئن نفسها، وتهدأ ثورتها، ولكن النبي يلمح جرحا بعانقها وهي لا تشعر به فينظر إلى حبيب بن زيد: ويقول له: أمك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، رحمكم الله أهل البيت.
وأسرع حبيب إلى نزع عصابة من عصائب أمه، فضمد جراحها، وحبس نزفها، وعلى فم أم عمارة بسمة كأنها البطل الظافر والضرغام الكاسر، لولا أنها حوراء قد هبطت من الجنة ترفل في هالة من القدس المنير، فتقول للنبي الكريم تبتغي رضوان ربها:
يا رسول الله، أدع الله أن نرافقك في الجنة.
فيرفع النبي يديه إلى السماء ويقول: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.
وما هي إلا دمعتان أصفى من ماء المزنه تنحدران في رفق وحنان على خديها، وتقول في رضى وأيمان: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد ذلك.