للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وخفت الوطأة، وانقشع الغبار، فمضى علي وسعد برسول الله إلى المدينة، حيث أخذت فاطمة الزهراء تغسل الدم عن وجه أبيها، فما أن هدأ حتى نظر إلى من حوله، وقال كأنما يشاركهم الحديث عن أم عمارة وما أحسنت من بلاء غداة أحد:

ما التفت يمنياً ولا شمالاً يوم أحد إلا رأيتها تقاتل دوني. وتناقل الناس أخبار أحد، وسار ذكر أم عمارة في الركبان، ولا ينفض سامر للرجال إلا عن أم عمارة، ولا ينعقد مجلس للنساء إلا بأم عمارة؛ دخلت عليها خباءها أم سعد بنت سعد بن الربيع الرجل الأنصاري الكريم الذي طابت نفسه لأخيه المهاجر عبد الرحمن بن عوف عن نصف ماله؛ وإحدى زوجتيه، ولم تكد أم سعد تلج الباب حتى تنسمت عطراً يفوح من أرجاء البيت، وإذا بالبهاه يأخذ عليها جوانب نفسها، ولم لا؛ وقد وقفت أم عمارة تصلي في المحراب، وتتلو القرآن في هدأة نفس، ورقة قلب، وعبرة عين، ومقاطع الآيات تكاد تشق صخور الجبال الرواسي. وألفت أم سعد نفسها وقد جمدت في مكانها، وألقت السمع والبصر والفؤاد جميعاً إلى أم عمارة وهي تتلو:

(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتن في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة؛ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا الله عنكم؛ والله ذو فضل على المؤمنين) الله أكبر وتركع وتسجد ثم تنهض إلى الثانية، فتستفتح بأم الكتاب ثم تتلو:

(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد؛ والرسول يدعوكم في أخراكم؛ فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم، والله خبير بما تعملون، ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنه نعاساً يغشي طائفة منكم. . .) الله أكبر.

ولما فرغت أم عمارة من صلاتها، تقدمت إليها أم سعد بالتحية المشرقة، فلقيتها بوجه يتهلل بالبشر والرضى، فبادرتها أم سعد تقول: يا خالة أخبريني خبرك. فقالت أم عمارة: خرجت أول النهار من يوم أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله، وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>