ولعل أغمض فترة في التاريخ العربي، هي تلك التي تمتد من القرن الأول الميلادي حتى القرن الثامن، فليس ثمة تاريخ صحيح لها، حتى المصادر اليونانية أو اللاتينية لم تشر إليها، رغم أن هذه المصادر عرضت لأحوال الجزيرة قبيل ذلك التاريخ (ومرجع ذلك فيما يبدو هو ظهور المسيحية وانتشارها في الغرب وتسلط الأضواء عليا، وجذبها لأنظار العالم المثقف إذ ذاك، وانصرافه عما عداها. وكذلك الإسلام من ناحية أخرى، فهو كما تعلم جاء مناهضا للوثنية العربية الجاهلية، فشن حربا لا هوادة فيها على كل ما هو عربي وثني، لذلك تطوع كثيرون من كتاب العرب لتشويه العهد العربي الجاهلي، تاريخا وأدبا وعقائد، وأضحت الصورة التي لدينا، والتي قدمها لنا الإسلام والمسلمون صورة مشوهة، لا تعبر عن حقيقة بلاد العرب قبل الإسلام)! وليس أقوى على ذلك دلالة ولا أبلغ حجة، من أن القرآن وسم عصر ما قبل البعثة بالجاهلية، وبداهة كان يقصد أن القوم لم يكن لهم نبي مرسل ولا كتاب منزل، وإلا فكيف نصم بالجهل وندمغ بالجهالة مجتمعا له آداب رفيعة، وثقافة عالية، كتلك التي تركها لنا العرب القدامى، ولكن الإسلام وهو يواجه قوة قريش في عنفوانها، لم يجد بدا من إسدال السجف على ما قبله من حياة، ومطالبة معتنقيه بترك ما ورثوا في صرامة، والعزوف عما ألفوا في شدة، حتى يمهد لدعوته سبل القرار، وكان له ما أراد إلى حين
وكان الشعر ديوان العرب الخالد، يجمع مفاخرهم، ويسجل عظائمهم، ويصور حياتهم، وتنعكس على محياه خلجات نفوسهم، ونبضات قلوبهم، فنهي عنه؛ وصادر روايته، وشن حملة شديدة على الشعراء ورواتهم (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون؛ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) ويروي الأغاني أن أمية بن الصلت كان يحرض قريشا بعد وقعة بدر يقول:
ماذا ببدر والعقن ... قل من مرازبة جحاجح
فنهى الرسول (ص) عن رواية القصيدة كلها، وكان لذلك أثره فيما بعد، فلما انتصرت العصبية في العهد الأموي، وعاد الشعر يحتل مكانته من جديد، كانت يد الرقيب قد امتدت إلى ما بقي من العهود الأولى، فحذفت وبترت، وغيرت وحورت، مرضاة لله أو تقربا إلى