إن مر بين شفاه القوم أسودها ... ألقى اصفرارا على بيض الثنيات
وليتها كان هذا حظ شاربها ... بل قد تفت بكفيه المرارات
عوائد عمت الدنيا مصائبها ... وإنما أنا في تلك المصيبات
إن كلفتني السكارى شرب خمرتهم ... شربت لكن دخانا من سكاراتي
وقلت يا قوم تكفيكم مشاركتي ... إياكمو في التذاذ بالمضرات
إني لأمتص جمرا لف في ورق ... إذ تشربون لهيبا ملء كاسات
كلاهما حمق يفتر عن ضرر ... يسم من دمنا تلك الكريات
حسبي من الحمق المعتاد أهونه ... إن كان لا بد من هذى الحماقات
والقارئ يجد في الأبيات السابقة أن المرحوم الرصافي قد كذب على نفسه وعلى الناس لأنه رحمه الله كان لا تفارق الكأس، شفتيه وهو كما قال فيه صديقنا الأستاذ الزيات:(همه من الحياة شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال) وقد حدثني الأستاذ الشاعر خيري الدين الهنداوي وهو صفي الرصافي وصديقه الحميم فقال:
إن صاحب الجلالة المرحوم فيصل الأول كان قد سمع بأن الهنداوي يشرب الخمر بإفراط وأن الناس قد نقلوا له - وأعني المقربين إلى جلالته آنذاك - أحاديث لا تسر؛ لذلك أرسل في طلبه، وحينما مثل بين يدي جلالته طلب منه هجر الخمر وإن لم يستطع فليشرب ولكن دون أن يعلم أحد به. . وما كان من الهنداوي إلا أن امتثل أمر جلالته ووعده بالطاعة وترك بنت الحان نهائيا، وخرج الهنداوي على هذا الأمر واعتكف في داره وهو ينظم قصيدة في هذا المعنى. وبعد يومين من نشر القصيدة جاءه المرحوم الرصافي وكان الوقت صباحا وبيده قنينة خمر وعندما استقر به الجلوس قال لصديقه الهنداوي أنت صاحب القصيدة التي تقول فيها لصاحب الجلالة إنك ستتوب عن شرب هذه الفضة، وأخرج له قنينة الخمر، فأجابه الهنداوي: طبعا، فما كان من المرحوم الرصافي إلا أن أفرغ في الكأس قسم منها وناولها الهنداوي وهو يقول:
والله لأفسدن عليك هذه التوبة.
وظل يداوره حتى شربا. وهذه القصة - وصاحبها حي يرزق - ما سقتها إلا للاستشهاد على كذب المرحوم في شعره وأعذب الشعر أكذبه كما قال غيره.