للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بذات الجنب فكان يتقلب على سريره متأوها صارخا وقد حاول الأطباء أن يهدئوا من لوعته فما رجعوا عليه بطائل. وفي غفلة من أهله ألقى بنفسه من شرف عال، فلفظ بقية أنفاسه. وأعرف عشرات غيره من المعدمين البائسين بهظتهم الحياة بتكاليفها الضرورية، وتضورت بطون أطفالهم جوعا وحرمانا، فها لهم أن يقعد بهم العدم عن إسعاد أولادهم فخفوا إلى الموت مرغمين، وفي صدورهم مراجل من اللوعة تغلي وتحتدم حتى تنفجر انفجارا، يراه الناس انتحارا فجائيا، في الواقع بعيد الأمد عميق الجذور! فيا هؤلاء لا تقولوا إنكم تحبون الموت، ولكن قولوا إنكم لم تجدوا مفرا من الموت فسعيتم إليه فزعين غير مختارين!

ولكن مالنا نزيد الأمر هولا فوق هول، فنؤكد المخاوف، ونقلق النفوس، وأولي بنا أن نعمد إلى شيء من التهدئة، والتلطيف! الحق أن الفناء رهيب مهول، وأن من دافعوا عنه يلجئون إلى العقل وحده فيقنعونه تارة ويدفعهم تارات، أما العاطفة فقد أوصدت منافذها دونهم أي إيصاد، فما وصلوا إليها في قليل أو كثير، وأنت تقرأ لهؤلاء في تمجيد الموت والترحيب به أقوالا أخذت سمت المنطق في القياس والاستدلال، فلا تجد شيئا من قبولك الصريح وهيهات أن يكون ذاك، واسمع ما يقوله أحد فلاسفة الإسلام على سبيل المثال:

قال ابن مسكويه - ما فحواه - (والإنسان في أصح تعاريفه حيوان ناطق ميت، فبالموت يبلغ كماله ويصل إلى نضجه فلم يخاف إذن من الكمال؟ وكل ينشده ويبتغيه) فهل راقك هذا الكلام؟ قد يتحير عقلك بين الرفض والقبول، إن لم يرفضه بادئ ذي بدء دون نقاش، أما العاطفة فتأباه وتتحاشاه، والإنسان ليس عقلا فقط، ولكنه عقل ووجدان!

لقد مات سقراط وهو يتحدث عن الخلود مرحبا، وجاء بعده مئات من الفلاسفة والحكماء فشغلوا أنفسهم بما شغل به سقراط، فهل اقتنع بمنطقهم إنسان، وهل رغب أحد في الموت ليصل إلى الخلود والبقاء؟ لقد ذهب كلام الفلاسفة أدراج الرياح، وجاءت الأديان فأنقذت الملايين من البشر ومالت بهم إلى عقيدة ثابتة بددت شكوككهم، وأغثتهم من الحيرة والارتياب، حتى إن جاهليا بدائيا تقلقه وساوسه فيسعى إلى الجمع الحاشد بعكاظ فيوجه إليه هذا السؤال (ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا؟) وتمضي الأيام مديدة طويلة فلا يرجع من الراحلين عائد ينبئ بما شاهد، وأنى لغائب أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>