للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحمام محتاجا إلى ما يريدونه من الإرهاب والتخويف، فجاءوا يضيفون إلى أهواله الحقيقية والمتوهمة أكداسا فوق أكداس!

هذه بعض الهواجس التي يرددها الخائفون الوجلون، وقد حاولنا أن ننقذها بعض الشيء مما يغمرها من المبالغة والتهويل، ولن نتمادى معهم في مخاوفهم المتشبعة، فلدينا الفريق الآخر الذي يرحب بالموت ويرسل في تمجيده الشوارد السائرة، وأنت تجيل طرفك فيما سطره هؤلاء فتجد سيلا جارفا من الحكم والأمثال قد سيق سوقا في هذا المضمار، فمثلا قائل (مقابر من ماتوا منازل راحة) (إن سئمت الحياة فارجع إلى الأرض. .) ومن قائل (ضجعت الموت رقدت يستريح الجسم فيه). . (فيما موت زر إن الحياة ذميمة) ومن قائل (وقفت حين تركت الأم دار)، (خضم الحياة بعيد النجاة) وقد فاقهم جميعا من يقول في رثاء صديق:

كذبتك لم أجزع عليك وقد رمى ... فؤادك من نيل الحمام ظلوم

تمر الليالي لا نحس صروفها ... فيما ليتني في الهالكين مقيم

تجوت من الدنيا نجاة نفسها ... عليك ولو أن الفراق أليم

ولم أر مثل العيش أزهاره الردى ... ولا عاصفا كالموت وهو نسيم

فهل عان على هؤلاء طعم الحياة كما يقولون، وهل يحنون إلى التراب حنينا خالصا بريئا؟ وماذا أعجبهم في المستقبل المجهول وهو ملئ بالغرائب والشكوك؟

وجه هذه الأسئلة إلى من يصبون اللعنات على الحياة، ووجه هذه الأسئلة إلى من يرحبون بالانتحار؟ فلن تظفر من هؤلاء بكلمة صادقة في حب الموت، فهم غارقون إلى آذانهم في مخاوفه ومآسيه، ولكنهم يلمسون القسوة الصارمة من الحياة. فيتعرضون إلى الفشل المخجل والخسارة الفادحة، والناس لا يرحمونهم في شيء، بل يلوكون أحاديثهم، ويمضغون مآسيهم شامتين فرحين، ويدور الفاشل بعينه فلا يرى من يرمقه بالعطف، أو يلتمس له العذر في ذلة، وقد يتضاعف وهمه فيظن أن الناس جميعا يتندرون به في كل مجتمع وناد، فيضيق في وجهه العيش، وتسود في عينيه آفاق الحياة، ويفزع إلى مصرعه البغيض كارها مرغما، وهو يوطن نفسه على ما ينتظره من شدائد وأهوال.

أعرف ثريا موسرا رتع في بحبوحة النعمة والترف أمدا غير قصير ثم ضربه المرض

<<  <  ج:
ص:  >  >>