تهديداتها لأنها كانت مثلي تبغض العمل أثناء النهار، ومع كل ذلك فإن منظرها وهي تتركني بقي ماثلاً أمامي، وكان يمزق قلبي تمزيقاً. وكان حبي لواجهات المحلات التجارية يحبسني أحياناً بطريقة آلية، على أنني كنت أتطلع إلى الواجهات دون أن أرى شيئاً، لأن فكري كان يتابع صورة فتاتي التي ظهرت لي وكأنها قد انتزعت منها كل فتنة، فبدا لي الشعر مهملاً، والرداء مرقعاً، والوجه مستسلماً يائساً.
وفكرت ثانية في مصيري. ذلك المصير الذي دفعت ثمنه غالياً لأشعر يوماً بشمس الحرية تدفئني، ومثلت أمامي مرة واحدة فكرة بعثت الشرر في عيني. فقد وجدت نفسي أمام منضدة مكتبة. وفي الوسط أمام عين الناظر، رأيت مجلة (أوروبا) وكان غلافها الأصفر محاطاً بغطاء أخضر، ولم يكن مكتوباً عليه غير الموضوعين الأولين من موضوعات المجلة وهما:
جوركي البلقاني بقلم: رومان رولان
كيرا كيرالينا بقلم: بانيت استراتي
شعرت بأن ساقي قد خارت قواهما، ودخلت في المكتبة وأنا أكاد لا أستطيع السير، ورأسي يطن طنيناً كأن بداخله بحراً هائجاً، واشتريت المجلة وضممتها إلى قلبي المضطرب، وذهبت كالمجنون إلى شرفة مقهى كبير وطلبت نوعاً من الشراب، وسجائر فاخرة، وقرأت ثم قرأت مقال (جوركي البلقاني) وأنا أذرف الدموع الحارة الصادقة على عبارات ذلك الرجل الذي كان مقاله هذا ضربة حديدية صارمة غيرت مجرى حياتي ومصيري. وبعد ذلك أرسلت رسالة تلغرافية إلى الناشر. وفي ظهر اليوم التالي وصلني بالتلغراف الأربعمائة وعشرون فرنكاً وهي حقوق تأليف قصة (كيرا) التي احتوت على اثنتين وأربعين صفحة من مجلة (أوروبا) نشرت في الخامس عشر من شهري أغسطس وسبتمبر عام ١٩٢٣.
وفي الليلة التي تلت هذا الحادث العظيم في حياتي كنت مريضاً لما انتابني من النعيم والسعادة فلم أنم مطلقاً، وأطبقت ذراعي في صمت، ناسياً رفيقتي التي لم تكن تفهم شيئاً لا حالتي ولا (جوركي البلقاني) وساءلت قلبي وهو خير أصدقائي وأكبر أعدائي قائلاً: