الأخير - وواروها في جثوة ضيقة عميقة باردة. . وأذكر أني هربت، ورحت أعدو من شارع إلى شارع كمن به مس من الجنون، حتى بلغت البيت. . وفي اليوم التالي رحلت.
وقد عدت يوم أمس. . ولما دخلت غرفتها ورأيت أثاثها وكل ما خلفته وراءها مر بخاطري شريط متتابع الصور من الأمس الحبيب، فعاودتني الأحزان وعصرت قلبي عصرا، وشعرت برغبة ملحة في أن أقذف بنفسي من النافذة. .
ولم أستطيع البقاء بين تلك الأشياء وبين تلك الجدران التي كانت تحتويها، فقد كنت أشعر بأنفاسها مازالت عالقة بجو الغرفة. . فاختطفت قبعتي واندفعت هاربا. . وفي طريقي إلى الباب مررت بالمرآة الكبيرة القائمة في البهو - تلك المرآة التي وضعتها هي هنا لتتأمل فيها نفسها وتصلح من شأنها كلما أزمعت الخروج.
واقتربت من تلك المرآة التي طالما انعكست صورتها على صفحتها، وخيل إلي أنها مازالت هناك. . فانتابتني الرعدة وجرى في جسدي تيار بارد، وتعلقت عيناي بالمرآة - ذلك الزجاج المنبسط الفارغ الذي طالما احتواها وملكها بكليتها كما ملكتها يوما وملكتها عيناي. . وشعرت كأني أحب ذلك الزجاج الأملس فمددت يدي إليه فإذا هو بارد لا حياة فيه. . آه منك أيتها المرآة الفارغة الرهيبة! وآه من تلك الأحزان القاتلة التي تبعثينها في قلوب الرجال!
سعيد ذلك الرجل الذي يستطيع أن ينزع من قلبه كل ما احتواه ويسدل على أمسه سترا ويكفن ماضيه ويواريه حفرة نائية، يا إلهي لشد ما أتعذب.!
وخرجت من البيت دون ما شعور أو تفكير ورحت أضرب في شوارع المدينة على غير هدى، حتى وجدتني أتجه إلى المقبرة. . وهناك وجدت قبرها البسيط وعليه صليب أبيض من الرخام حفرت عليه هذه الكلمات: -
(أحبت وأحبت، ثم ماتت). . .
نعم ماتت، وهاهي هنا تحت الثرى وقد تعفنت وحالت إلى تراب. . يا لله. . وبكيت طويلا ورأسي مسند إلى قبرها. . ثم بدأ الظلام يرخي سدوله. واكتسحتني رغبة جنونية - رغبة العاشق اليائس - في أن أقضي آخر ليله بجانب قبرها. ولكني خشيت أن يبصر بي أحدهم، فما العمل.؟ ليس أمامي إلا الحيلة. . فرحت أتجول في مدينة الموتى وأتنقل من