هنا إلى هناك. . ولشد ما بدت لي هذه المدينة صغيرة بالنسبة لمدينة الأحياء. . ولكن ساكنيها ولا شك أكثر عددا وعديدا. . ومع ذلك فهم يقنعون بهذه البيوت الوضيعة بينما نحنو الأحياء نطلب القصور العالية والشوارع الواسعة والمأكل الشهي والمشرب العذب، لنعود في النهاية إلى التراب وننظم إلى أجيال الموتى التي سبقتنا؛ ويطوينا المجهول وإياها بردائه.
وقادتني قدماي إلى طرف المقبرة حيث تقوم القبور القديمة المتآكلة الصلبان والتي حالت أجساد ساكنيها إلى تراب لا يلبث أن يصبح مهدا للمزيد من الأموات. . وكانت الأزهار في هذا الركن تقف على سيقانها سقيمة الحسن ذاوية البهجة.
ولا عجب، فأنها ترتوي من ماء الأبدان. . ولم يكن في هذا الجزء أحد من الأحياء، فتسلقت شجرة عتيقة واختبأت بين أغصانها، ومكثت هناك طويلا متعلق في جذع الشجرة كما يتعلق الغريق بحطام السفينة.
وأخيرا نفض الليل على المكان حالكات نقابه، فنزلت من مخبأي وأخذت أسير ببطء وحذر فوق تلك الأرض المليئة بالموتى. . وتجولت بين القبور دون أن أهتدي إلى قبرها. . فسرت باسطا ذراعي أمامي أتحسس طريقي، ولكني لم أعثر على قبرها. . وأعدت الكرة فلم أترك شيئا إلا ولمسته. . الصلبان والأحجار والأسوار الحديدية وأكاليل الزهر الاصطناعية وأكاليل الزهر الذابلة اليابسة، وقرأت أسماء أصحاب القبور بأطراف أصابعي، ولكن دون جدوى. . يالها من ليلة. . فقد كانت ليلة ضريرة النجم والقمر، ملأت قلبي رعبا وفزعا وأنا أتنقل في الممرات الضيقة بين القبور. ولم يكن هناك سوى قبور. قبور في كل مكان. . ومن ثمة جلست على واحد منها بعد أن نال مني التعب وتملكني اليأس. وكنت أسمع دقات قلبي بوضوح وأنا جالس هناك وحيدا مرتعدا. . ثم طرق أذني صوت آخر غامض انبعث من جوف الظلام أو باطن الأرض المزروعة بأجداث الموتى. . فتلفت حولي وأنا أكاد أختنق من الخوف والرعب. وفجأة شعرت أن السطح الرخامي الجالس فوقه قد أخذ يتحرك كأن يدا تدفعه. . فوثبت إلى قبر مجاور ونظرت إلى القبر الذي كنت جالسا عليه فرأيت الحجر يرتفع ومن تحته هيكل بشري يدفعه بظهر متقوس وبرغم الظلام الحالك فقد كنت أراه بوضوح، وقرأت على صليب قبره هذه الكلمات -