للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأسد الثائر يتحول إلى حمل وديع.

أما باريس وشعبها وأنديتها وكبار شخصيتها فكانوا لا يعرفون عن هذا الفتى شيئا وعبثا كان يقصد ليلا إلى البوليفار، ويأخذ في التطلع إلى أوجه المارة، وعلى نور مصابيح الغاز الضئيل لعله يكتشف بينهم روحا شقيقة لروحه، فيأنس إليها ويبثها ما في قلبه من حنين وشجن. وأخيرا وجد نهر السين ضالته المنشودة فأحبه وأنس به وركن إليه، لاعتقاده إنه الصديق الذي لا يخون، والرفيق الذي لا يراوغ.

فكان يقضي أيام الآحاد بكاملها ماخرا بزورقه في مياه نهر السين محاولا تبريد ما يستمر في نفسه من ميول وأهواء وكانت برودة رياح ذلك النهر الذي هو أشبه بقطعة من البحر تنسيه غبار المصلحة التي يشتغل فيها، ورائحة المقاهي التي يرتادها وضمات الغواني اللواتي يجتمع بهن وجملة القول أنه اتخذ من ذلك النهر عشيقة ورفيقه ونجيه ومهدهد أحلامه ومن قفوله في انصرافه إلى تلك الحياة البوهيمية: (لا عمل لي سوى التجديف والاستحمام، وقد اعتادت الجرذان والضفادع رؤية نور مصباح زورقي الضئيل كل ساعات الليل، وعندما أقبل عليها ترفع أصواتها لاستقبالي أما أصدقائي المجدفون فكان يدهشون عندما أطل عليهم في منتصف الليل، وأشاركهم في احتساء كأس من الشراب)

ثم تعرف مومبسان إلى الكاتب المشهور جوستاف فلوبير وكان هذا الأديب العبقري قد حوكم وقوطع بسبب روايته (مدام بوفاري) وبات منعزلا في بيته كركب فرضت عليه المراقبة الصحية، لا أحد يجسر على الدنو منه. غير أن هذا الكاتب الكبير ولم يحزن لما أصابه، أو يهتم لأنه أصبح وقتئذ لا يرسم من صور الحياة إلا بقايا ما في شخصيته التعبة من رؤى وأشباح لقد كان كملك مخلوع، قبع في هيكل للفن لا أحد يعرف مدخله سواه.

وكان فلوبير في ذلك العهد يفتش عن تلميذ نبيه، وموبسان يفتش عن أستاذ خبير يمكنه الاتكال عليه. فتفاهما وتصادقا ومزجا روحيهما في روح واحدة. وظل موبسان خلال سبعة أيام يرتاد بيت أستاذه في أيام الآحاد، حاملا إليه ما يكون قد حبره في أيام الأسبوع لكي يصلحه له. وكان الأستاذ يقلب نظره في تلك الأوراق المكتوبة، وهو يشطب بقلمه الرصاصي الأزرق ما يراه شاذا أو خطأ. ولم يطل أن اكتشف التلميذ سر فن الأستاذ، وراح ينشب سهام سخريته السامة في أكاذيب الحياة ورياء المجتمع.

<<  <  ج:
ص:  >  >>