وفي خلال السنوات السبع التي قضاها موبسان صديقا لفلوبير، وأرشده هذا إلى طريقة تضمن له الفوز في حياته الأدبية، وهذه الطريقة هي أن يلاحظ، أولا وثانيا وثالثا، وكل ما يحيط به ويقع تحت نظره، من مشاهد الحياة وحوادث المجتمع ولما توفي فلوبير قصد موبسان إلى بيت صديقه وأستاذه المتوفي، وعملا بوصيته له أخذ يلاحظ أولا وثانيا وثالثا، غسل الجثمان وإعداده للدفن، وحمله إلى المقبرة وإنزال التابوت إلى الحفرة. كان موبسان يقاسي صداعا لا يحتمل، ولكي يخفف من هذا الألم كان يلقى بنفسه في مياه نهر السين الباردة. ثم كان يقترب من الشاطئ ليسمع الذين تجمعوا هناك للتفرج عليه كل كلام بذيء. وكان يروي لرفاقه الموظفين قصصاً يحمر لها وجه الفضيلة خجلا، ويلقى في مسامع السيدات والأوانس اللواتي يجتمع بهن في الحفلات والمراقص كل قول ملتبس. وكانوا يتحدثون عنه ويقولون أنه أوقح رجل عرفته باريس. نعم لقد كان أوقح رجل عرفته باريس، ولكنه كان في الوقت نفسه من أكثر رجال تلك المدينة ذكاء وعبقرية. ولربما كانت هذه العبقرية نفسها سبب ما كان يعانيه في حياته المضطربة من ألم وضيق. وكان الباريسيون يتحاشونه، ويتخلفون عن مشاهدة ما كان يمثله من الروايات المشبوهة في مختبر لرسام عرف بتعشقه هذا النوع من التمثيل، ورجال الأمن يعنفونه بشدة كلما أطلعوا له على قصيده مجونية منشورة في مجلة تعني بمثل هذه المواضيع وكان كلما أشتد صداعه، ولا سيما في أيام الشتاء الباردة، يقف أمام المرأة ساعات كاملة، محدقاً إلى عينيه كأنه يريد أن يكتشف فيهما أسباب ذلك الألم وقد كتب مرة إلى أمه قائلا:(إن شهر ديسمبر يخفيني ويبعث قلبي في اليأس. إنه شهر قاتم ومشؤوم ولا سيما في منتصف ليلة آخر السنة وعندما أجلس وحيدا إلى منضدتي ومصباحي أمامي يلقي علي نوره الكئيب أشعر بانحطاط قواي إلى درجة لا أعرف معها إلى أين أتجه) ولكنه كان يتجه دائما إلى روايته وقصصه، ملتقطا مواضيعها من أفواه الصيادين والقرويين والممثلات والغواني والموظفين وغيرهم.
وأجتمع مرة بفئة من رجال الفكر والقلم في منزل إميل زولا وكانوا يتباحثون في مبادئ المذهب الأدبي الجديد الذين يريدون اعتناقه والتبشير به. وفي أثناء ذلك اقترح أحدهم وضع كتاب عن الحرب التي نشبت بين فرنسا وألمانيا، ولكن ليس كالذي اعتاد المؤرخين