للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فأبصر طيفه جالسا على كرسيه يطالع كتابا كان قد تركه منذ دقائق قليلة وألف قصة عن رجل كان طيفه يتعقبه بصورة دائمة وفيما يكتب ذات يوم جاء طيفه وجلس أمامه بالذات، وأخذ يملي عليه ما كان يكتبه فأرتاع من شدة الخوف وصاح رافعا يده يريد طرد تلك الرؤية الغريبة.

وكان في أيام الشتاء يجلس إلى الموقد وهو يرتعش من شدة البرد حتى إنه أيام الحر كان يحتفظ بنار موقده مستعرة. وكان يفكر في الذباب الذي يعيش بضع ساعات، وفي الحيوانات التي تعيش بضعة أيام، وفى البشر الذين يعيشون بضع سنوات وفي العوالم التي تعيش بضعة قرون. ثم كان يتساءل: فما الفرق بين الحشرة والكون؟

بضعة شروق شمس لا أكثر ولا أقل!

وكان لشدة خوفه من الموت يقول: (إن الموت يقترب مني أريد أن أمد إليه يدي وأبعده عني. إني أراه في كل مكان: ففي الحشرات المدوسة على الطريق، وفى الأوراق المتساقطة على الأرض، وفى الشيب الذي يجلل رأس هذا الصديق! إن هذا كله يدمي قلبي ويصيح قائلا لي: أنظر! إنه يقضي على كل ما تفعله وكل ما تنظره وتأكله وتشربه وتحبه! إنه يحرمني رؤية شروق الشمس، وبزوغ البدر، وتقلب أمواج البحار، وجريان مياه الأنهار ونسمات العصر البليلة التي ينعشنا تتنشقها!)

وساءت حالته الروحية بعد فقد أخيه (هرفه) على أثر نوبة جنون أنتابته. ولكنه ازداد نشاطا وانعكافا على الكتابة وتأليف القصص والروايات، حتى إن هذا الدور كان من أكثر أدوار حياته إنتاجا، كما لو لأن السموم التي تفسد دمه، استخرجت أفضل ما فيه قبل أن تقضي عليه. وكان يترآى له كل ما في منزله من أثاث وأدوات يتحول إلى حيوانات كانت تدخل غرفته ثم تخرج منها وتنزل الدرج إلى الشارع. ووقف مرة أمام صليب كبير كان قائما في إحدى الساحات وقال لخادمه: أنظر يافرنسوا لقد كان في الثالثة والثلاثين عندما صلب، وأنا الآن أقترب الحادية والأربعين!

لقد كان موبسان رسام النفس البشرية الأكبر. كان يرسم بدون بغض وبدون حب وبدون غضب وبدون شفقة كان يرينا ما في هذه النفس من شوائب وعاهات بلباقة وإتقان يحملاننا على الاعتقاد بأنها حقائق ننظرها بأعيننا ونلمسها بأيدينا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>