وكلا النوعين في الإسلام متمم للأخر، وكلاهما قوام على نشر رسالة الدين على أوسع ما يكون الانتشار، وحافظ للأسس الجوهرية والتفصيلية للوظيفة الدينية التي جاء بها القرآن وشرحها الحديث وتراث السلف الصالح.
ومن هذا التمازج استمد أهل الاجتهاد العون على استنباط التشريع الذي صاحب نمو الجماعة الدينية واتساع حاجاتها الدنيوية، وتطور أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وازدياد حياتها الاجتماعية تعقدا وتشويشا. وهذا التطور الطبيعي الذي لا مفر منه هو الذي استدعى أكثر فأكثر تحديد العقيدة الدينية، والسعي لإحاطتها بسياج من الوقاية تحول دون التحريف والتأويل وتستهدف صيانتها من سوء الاجتهاد الذي كثيرا ما يلتبس عليه تحديد جوهر العقيدة في خضم هذه الذخيرة الطائلة من الحكم والأمثال والعبر الذي استشهد بها القرآن والدين والسلف الصالح في معرض شرحهم لذلك الجوهر.
ولعل هذا الالتباس هو السبب في ضلال بعض الكتاب المعاصرين الذين يحاولون تطبيق النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة على تعاليم الإسلام، أو تبرير هذه النظم على ضوء الحكمة والفلسفة الإسلامية.
فهذا النوع من الاجتهاد يتطلب تحفظا بالغا في البحث والاستقراء، والمنهج العلمي الصادق لا يقتبس الفقرة من سجل مجردة عن المعنى الشامل الذي استعملت فيه تلك الفقرة، والأمانة في الاقتباس والاستشهاد تستوجب استعراض المجال الواسع الشامل الذي جاءت منه تلك الآراء أو المعاني أو الحكم التي اقتبست واستشهد بها. فبعض كبار الأئمة مثلا يراعي شرح أسباب نزول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قبل أن يجيزوا بفتوى أو يدلوا برأي له بالعقيدة الدينية مساس مباشر.
ولقد رأينا أن الاجتهاد والتشريع يصاحبان نمو الجماعة وتطورها التاريخي، فينشأ إلى جانب الفلسفة الدينية بمعناها الشامل فلسفة اجتماعية تستمد عناصرها من التطور الجديد وما يخلقه من محاسن أو مساوئ. وقد تكون التعاليم السماوية قد حددت وظيفة الدين إزاء هذه العناصر المستجدة تحديدا بينا واضحا، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للتعاليم السماوية أن تتحمل سوء الاجتهاد. وقد يحدث أن تكون إشارة التعاليم السماوية إلى العناصر المستجدة في التطور الاجتماعي إشارة مستترة؛ التعرف عليها يتطلب مزيدا من الاجتهاد