فكأنها بدر تلألأ في الدجى ... وكأنهن كواكب الجوزاء
بل قد يمثلها الخيال كأنها ... قمر أحيط بهالة بيضاء
قال هذه الآبيات مرتجلا في (معلقة) وقد برع في وصفها مجنحا إلى آفاق رحبة من الخيال المطلق. والذي نتلمسه الآن في شعره هو أن الطابع الوصفي يغلب على شعره في الطبيعة والذي يصاحبه الجرس واللون والخيال المجنح؛ وقد يمتزج أحيانا بفلسفة الحياة والعاطفة والوجدان.
ونراه بعد حين يرتد طرفه عن مباهج الحياة وزخارفها، ليرى وطنه وقد لعبت به أيادي الحدثان، وارتفعت في أرجاءه سياط الطغيان، فأنشد يقول ودمعه لا يرقأ:
نظرت إلى عرض البلاد وطولها ... فما راقني عرض هناك ولا طول
ولم يبد لي فيها معاهد عزها ... ولكن رسوم رثة وطلول
أأمنع عيني أن تجود بدمعها ... على وطني إني إذن لبخيل
لنشاركه في هذه النظرة التي ألقاها على البلاد، حيث تتجلى فيها دفقة الحس وفيض الشعور، لنرى وإياه بعين المتأمل الخبير (فما راقني) يا للعجب!. تلك البلاد التي استهوته بجمالها؛ وأسرته بمفاتنها، يعود فيراها على صورة غير التي كان يعهدها منذ قبل. . (ولكن رسوم رثة وطلول)، وكأننا نحس ونشعر بما يرمي إليه الشاعر، فيغمرنا الألم ويحز في نفوسنا، فنشاركه دموع الحزن والأسى لما أصاب الوطن الجميل. . ثم ماذا؟! (إني إذن لبخيل)، وهنا تتم اللوحة التصويرية في أجل معانيها وأنبل غاياتها، فتدفع بالروح المتطلعة إلى أبعد حدود الذات، إلى الانطلاق الحر، إلى ثورة النفس الصاخبة التي يرمي إليها الشاعر في هذا الهمس البسيط يبغي من وراء ذلك تحطيم القيود وهدم السدود، ودك صروح الغزاة المعتدين!!
هذا هو الرصافي في شعر الطبيعة، ذلك الشعر الذي يتراءى لنا من خلال سطوره وقدة النفس في طموحها في سبيل الاعتزاز بهذه الأرض الطيبة الساحرة الجميلة!.
والرصافي الآن في مقدمة موكب الخالدين، وشعره هذا سيبقى سفرا قيما للتاريخ التصويري للطبيعة العراقية!