للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ستتقطع من دونه غداً علائق الآمال!

ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمداً، والتلبث بتحليل الرجل، ورد العوامل في تكوينه إلى مناجمها حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من معاصريه، حتى يتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور وأصفى، ونخرج النتائج أدق وأوفى.

وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها تصحيحاً لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق القربة كما يقولون!

على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستضهار المكاره، حتى لا يثير المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ماله خطر في تكوين الرجل، فإذا هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من بعده من الأعقاب.

وعلى أي حال فان إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، كثيراً ما يخلو بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء. ولست أجد في هذا الباب مثلاً أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا، لولا مهبط البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة ١٧٩٨، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبداً إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا وأبعد في مذهب التاريخ؟

ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم لظلت سلسلة الأزياء واضحةً على وجه الزمان.

ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره المحفوظة لا تجدي كثيراً في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه، حتى مظاهرها. بل إنها لكثيراً ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ. ولست أسوق لهذا أكثر من مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره لخرج لك منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح المرسلة. فإن أحداً لم ينع الشح ولم يذم

<<  <  ج:
ص:  >  >>