الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ذم: وإن أحداً لم يؤلف كتاباً في (البخلاء) أبلغ فيهم إيجاعاً، وأشد لهذه الخلة وأصحابها إقذاعاً، كما صنع الجاحظ. ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع، والحمل على المروءة أحياناً في طلب المال. وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج لخرج لك من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتاً، وأنظفهم بدناً وثوباً، وأشدهم أخذاً للنفس بأدق آداب السلوك في طعامه وشرابه، وغير ذلك من أسبابه. ولكن الواقع أنه كان من أشد الناس شرهاً، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خلقاً وثوباً، حتى ليصح في بعض خلته قول الشاعر:
ولولا أن معاصري هذا وهذا أثبتوا لكل منهما ما أثبتوا لزلت فيهما الأقلام، وضلت الأوهام!
بعد هذا آخذ في حديث أستاذي ورئيسي وصديقي العالم الفيلسوف، الأديب، والكاتب، الناقد، السيد محمد بك المويلحي رحمة الله عليه.
من أكثر من ثلاثين سنة خلت، ولما أزل بعد في أيام الفتوة، وفي صدر طلب العلم في الأزهر، صدرت في مصر جريدة أسبوعية سياسية أدبية باسم (مصباح الشرق) في أربع صفحات دون صفحات الجرائد التي تصدر الآن مساحة، ولون ورقها يضرب إلى الحمرة. ويقوم بتحريرها إبراهيم بك المويلحي وابنه السيد محمد المويلحي. وكانت عامة الصحف الأسبوعية قد وصلت في ذلك العهد من المهانة والفسولة والإسفاف وتفاهة الموضوعات إلى أبعد الحدود.
مصباح الشرق
لقد كان هذا (مصباح الشرق) شيئاً طريفاً حقاً، لقد كان أبلغ من طريف، فإنه لأعجوبة حقاً، لقد كان هذا (مصباح الشرق) أبلغ من أعجوبة، إنه لشيء يكاد يتصل بحكم الخوارق في تلك الأيام! بلاغة بليغة، ولفظ جزل متخير، وديباجة مشرقة، وصيغ مونقة، ونسج متلاحم، وأسلوب ليس وراءه في هذا الذي يدعونه السهل الممتنع.
أدب بارع، علم وفلسفة، وبحوث رائعة في سياسة الأمم وفي أخلاق وعلوم الاجتماع، منها المبتكر المنشأ، ومنها المترجم من مختلف الُّلغى في عبارة عربية بليغة سلسة ناصحة