للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

واضحة لا تستروح منها أي ريح للاستعجام. وهل رأيت قط ترجمات السابقين في عصر بني العباس؟

مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ بل لعله لا عهد له به من أول الزمان! لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثاً حتى أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد!

لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب. هل رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق (المصباح) وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين. بل أنه لينساح على الصفحة كلها انسياحاً ليدرك قبل رد الطرف أشك المويلحي اسم صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟ حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من نفسه، ويبسط في خلفه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس.

وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت، عصمنا الله وإياك، كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟

على أنه مما ينبغي أن يذكر هنا، أن (المصباح) لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من أمورهم إلا ما كان يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه بآثارهم وظاهر أعمالهم، فلقد كان (المصباح) أجل من ذاك موضعاً وآنف كرامة. .

وأنه ليستحدث لوناً طريفاً من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم العربية جمعاء. وهذا النوع من النقد يقوم، في الجملة، على التماس الجانب الضعيف في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة (كاريكاتورية) يزيد في تشويهها ما يتوافى لذهنه الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد وطلب المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين!

<<  <  ج:
ص:  >  >>