ظانين أن هذا كل ما يعني القارئ لسيرة البلد، أما عن خطوات البلد في الحياة وما أمسى عليه وما أصبح، وحياته العلمية والسياسية والاجتماعية من تلك الأمور التي بدأ يلتفت إليها المؤرخون المحدثون. فذلك شيء لم يخطر لهم ببال.
من أجل ذلك عددت كتب المؤرخين في سير البلاد ليست من الخاص إلا في عنوانها ومقدمتها وتلك الصلة التي جوزت سرد تلك الجمل من التراجم.
وابن العديم من الذين حاولوا أن يفردوا حلب بسيرة متأثرا في ذلك بمن ألف في سير البلدان قبله. فوضع كتابه البغية أو التاريخ الكبير على نهج من سبق، خص حلب بشيء قيل مثله في دمشق وبغداد، ثم أردف يجمع تراجم من لهم بحلب صلة.
ويلتفت ابن العديم فيرى أنه لم يوف سيرة حلب بما فعل وأنه لا بد للمؤرخ في سير البلدان من نهج غير هذا، يخص فيه البلد بحديث موصول الحلقات، فيقبل على كتاب البغية يحور فيه ويشكل ويخرج على الناس منه بهذا الكتاب الذي أسماه زبدة الحلب من تاريخ حلب.
وفي الحق لقد قارب ابن العديم أن يكون في هذا الكتاب كاتب سيرة حلب. فقد أرخ لها في ظل الملوك والقضاة وعرض لما واجهت من فتوح واستقبلت من غزاة وما عانت من حروب، كل ذلك خلال سرده لحيات الأفراد الذين حكموا وولوا. ولو أنه ألتفت قليلا إلى حلب نفسها فحدثنا عن مظاهر الحياة فيها في إفاضة وتوسع لو في غرضه وأكمل نهجه. ولكن الكتاب يعرفه كل مفيد أنه مع البقية تاريخ حلب الذي عليه معتمدهم ومنه إفادتهم.
هذه موجزة في التاريخ والمؤرخين، وأما عن النشر والناشرين فذلك شيء حبيب إلى نفسي الحديث عنه، فالصلة به قديمة ومشاركتي فيه متنوعة.
وإذا ذكرنا النشر فإنما نعني ذلك النهج القويم الذي طلع به علينا الغربيون على مختلف أممهم فكانوا فيه بحق أساتذة تلك المدرسة الذين بينوا السبيل وخطوا الخطة.
ثم كانت للشرق في أثرهم خطوات موفقة لكنها يعوزها الأناة والصبر؛ ثم بسطة من المال والشيء من التشجيع وعندي أن هذا العمل الخطير جدير أن يرعاه رجل خطير يدعم أركانه، فما أحوج الناشر إلى من يمكنه من المخطوطات المبعثرة هنا وهناك في جهة العالم المختلفة، وإلى من يرزقه على جهد سنين متصلة، وإلى من يجزيه جزاء فيه عوض وبه رضى.