فإن الباقين ممن نجل مكانتهم ونعلي شأنهم. ولكني في الحقيقة كيف يدعي الكتاب المحدثون فهم كتب أبن سينا والفارابي بلغتها واصطلاحاتها المهجورة؟ وقد كنا معذبين من شيوخ أساتذتنا في النجف الأشرف فكانوا يقفون عند كل كلمة وينشرون لنا ما فيها من بطون وما علق عليها أصحاب الحواشي والشارحون فإذا عثروا بكلمة (فتأمل) وقفوا عندها وأطالوا البحث شارحين وجه التأمل وقد كان له (فإن قلت قلنا) ميدان واسع يجول في مجاله فرس الشيخ الوقور ويصول، فمن أفهم شباب العصر أسرار (فتأمل) ومن غاص بهم في أعماق العبارات؟ وهل تقوى عيونهم على قراءة الحواشي الدقيقة الخطوط المتعرجة وهي على الأخص في مطبوعات إيران ذات أشكال غريبة؛ فمنها ما نضد ونظم على شكل (الباذنجان) ومنه ما جاء على شكل (أوراق الورد) أما الخطوط فما غرب تعليقات لدارسين فيها فهي تتلوى بين السطور كالأفاعي، فكيف فهم العصريون تلك الكتب الغامضة التي أظن أن المتنبي قصدها بقوله:
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
فكيف فهم الأستاذ إسماعيل مظهر (أسفار ملا صدرا) حتى أخذ يحدثنا في كتابه (ملقى السبيل) عن أحيلة الملا صدر الدين الشيرازي وأوهامه في أسفاره ونحن في النجف الأشرف لا نقرأ كتاب الأسفار إلا بعد أن يدرس الطالب علم المنطق بكتبه القديمة مثل حاشية الملا عبد الله على منطق التهذيب، وشرح الشمسية، وشرح المطالع، وشرح منظومة الشيخ هادي شليله، وشرح منطق إشارات ابن سينا، ثم يقرأ في علم الكلام شرح التجريد والأصل لنصير الدين الطوسي والشرح لتلميذه العلامة الحلي أو شرح الملا علي القوشجي عليه، ويدرس في الفلسفة شرح إشارات ابن سينا لنصير الدين الطوسي وردوده على (الفاضل الشارح) فخر الدين الرازي مدافعا عن الشيخ الرئيس و (محاكمات الداماد) الذي أقام نفسه حكما يفصل بين الشارحين، ويدرس شرح منظومة السنرواري في الحكمة، ويدرس الشفاء لابن سينا ثم يدرس بعد كل هذا أسفار الملا صدر الدين الشيرازي، ونسيت عد الشوارق للملا عبد الرزاق اللاهجي في الكلام. ولأغرب من هؤلاء المدعين فهم تلك الكتب الصفراء - ادعاءات المستشرقين الأجانب فهمهم تلك الكتب الوعرة المسالك وكنا لا نتورط في مجاهلها إلا بدلالة من أساتذة بارعين نشأوا وشبوا وشابوا على خوض غمارها