فكيف تسنى لأمثال (دي بوير) الهولندي أن يفهم مذاهب فلاسفة الإسلام؟ وكيف تهيأ ذلك وتيسر لجيوم الإنجليزي ونلينو الإيطالي؟ وكيف ترجم أسلافهم هذه الكتب إلى اللغات الأوربية؟ إني أكاد أجزم بفساد تلك التراجم وشيوع الأغلاط فيها. وبعد هذا ألا يحق لنا أن نعذر المرحوم الأستاذ مصطفى عبد الرزاق على وصفه الفارابي في ما كتبه بالغموض والاضطراب إذ قال في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) وبعد الكندي أبونصر الفارابي المعلم الثاني المتوفى سنة ٣٣٥هـ (والمعروف أن سنة وفاته ٣٢٩هـ) فعرض لتجديد معنى الفلسفة وعرض للإحاطة بأقسامها وذكر الغاية منها والفرق بين الدين والفلسفة في بيان أفصح وأبسط لكنه فرق هذه الأبحاث في مواضع من كتبه لمناسبات، ولم يعمد إلى جمعها في نسق ولم تخل أقواله على بسطها من اضطراب وغموض في بعض الأحايين).
ولكن أبن العبرى المتوفى سنة ٣٨٥هـ وكان قد عاصر وعاشر نصير الدين الطوسي في مراغة قال في تاريخه (مختصر الدول) يثني على أسلوب الفارابي ويصفه بلطف الإشارة وصحة العبارة إذ ذكر (أن الفارابي استوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان المتوفى في أيام المقتدر واستفاد منه وبرز في ذلك على أقرانه وأربى عليهم في التحقيق وأظهر الغوامض المنطقية وكشف سرها وقرب متناولها وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أعفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وإنحاء التعاليم فجاءت كتبه المنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية - الغاية الكافية والنهاية الفاضلة) فترى ابن العبري لا يجد الغموض والاضطراب الذين وصم أقوال الفارابي بهما صاحب كتاب (لتمهيد لتاريخ الفلسفة) ولعل العلة من صنع الزمن؛ فإن ابن العبري من أبناء القرن السابع الهجري ولغة كتب الفارابي (المعقدة) لغة عصره العلمية - تقريباً لتشابه العصرين في لغة التأليف. والحق أنك لتجد كتب المؤرخين طافحة بالإعجاب بفضل الفارابي والإعلاء من مكانته ولئن كان إطراء بعض هؤلاء عديم القيمة لجهله الفلسفة فهو بلا ريب مرآة لآراء العارفين. قال ابن الأثير المتوفى سنة ٦٣٠هـ (وفيها توفى أبو نصر الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها وهذا الشيخ زين الدين عمر بن الوردي من القرن الثاني الهجري يقول في تاريخه عن الفارابي وألف في بغداد معظم تصانيفه ثم دخل مصر ثم دمشق وأقام بها أيام سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وكان