ثم ألقى سعادة الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا كلمته في تأبين الفقيد، فابتدأ بقوله: إن الرجل الذي نؤبنه اليوم كان يمثل جيلا كاملا، بما ينطوي عليه هذا الجيل من علم ووطنية وأدب وثقافة وتفكير، وإن جوانبه المتعددة كانت تصدر جميعها عن وحدة تتمثل في شخصية قوية عنيفة، إذا هي أحسنت قوتها امتلأت إباء وأنفة، وإذا هي واجهت الأحداث التهبت عنفا وثورة. وكان في الفقيد كبرياء وتواضع، كلاهما يصدر عن أصل واحد هو هذه الشخصية القوية العنيفة، ترفع رأسها تيها على الأقوياء، وتخفض جناحها رحمة بالضعفاء. وبعد أن تحدث عن قوته وعنفه ومكافحته في حياته القانونية والسياسية، قال: وهو قوي عنيف مكافح في حياته الأدبية والفكرية يوم نادى أن تكون الكتابة بالحروف اللاتينية، ويوم ثار على مبدأ تعدد الزوجات، ويوم نفر ممن قال إن القانون الروماني مأخوذ من الفقه الإسلامي، فعكف في آخر حياته على الكتابة في القانون الروماني وهو أجف مادة في القانون. وقال: كان الفقيد أديبا من ذلك الطراز القديم، له أسلوب عربي رصين عريق في عربيته، يصعد إلى الأصول الأولى من العربية، ويحلق في سماء الأدب كما هو مسطور في كتبه الأصيلة، وبقيت ملكة الشعر تختلج في نفسه فيقرضه حتى في أواخر أيامه.
وأفاض سعادة السنهوري باشا في الحديث عن حياة الفقيد القانونية وأثره في المحاماة والقضاء وجهاده في سبيل إلغاء الامتيازات الأجنبية وما تخلل ذلك من مواقفه المظفرة المشرفة، ثم اختتم هذه الكلمة الفياضة بقوله: كان الفقيد يؤمن بالله إيمانا عميقا، ولكنه كان يؤمن بقلبه وبعقله، وهذا هو إيمان الرجل المفكر القوي، يتحدى به إيمان الرجل المستسلم العاجز. والآن وقد رحل إلى عالم الخلود، أتراه كشف عن هذا السر المستور الرهيب، الذي كان يجيل فيه عقله القوي، فلا يكاد يهتدي إلى شيء بغير معونة من قلبه، أم تراه علم أن هذا العقل البشري لا غناء فيه لدى عالم قيم الأشياء فيه وطبائعها تغاير ما عرفناه بعقولنا من قيم وطبائع. كان الفقيد يمثل جيلا كاملا مباركا على مصر، باكورته محمد عبده زعيم النهضة الدينية، وسعد زغلول زعيم النهضة الوطنية، وقاسم أمين زعيم النهضة الاجتماعية، وكان هو من خواتيم هذا الجيل، زعيم النهضة القانونية.