للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عجز هو عن السعي إلينا، فنسمع منه ما يمنحنا القوة والجلد. كان ذكاؤه لا حد له، يفطن إلى دقائق الأشياء، ويفهم في سرعة، وقلما يخطئ فيما يفهم بسرعة، وكان إذا اقتنع بشيء مضى إليه كالسهم، كان لا يعوج في تفكير أو قول أو عمل. امتاز في أثناء الطلب وبعد التخرج في الحقوق وفيما تولى من مناصب، حتى إذا كانت الحركة الوطنية كان أسرع الناس للاستجابة إلى دعوة الوطن حين دعا أبناءه إلى الجهاد والكفاح، وكان العقل المدبر في الحركة الوطنية، جاهد مع أصحابه ما وسعه أن يجاهد معهم ثم حالف بعض الشيء فلم يداهن ولم يعوج، وإنما مضى فيما يراه حقا. كان في خصومته عنيفا أشد العنف لأنه كان في اقتناعه عنيفا أشد العنف. كان يرى رأيه قطعة من نفسه إذا سلم فيه سلم في قطعة من نفسه، ولم يسلم في رأيه حتى أسلم نفسه للموت، وكان عنيفا في حبه عنيفا في بغضه، يحب فيرى أن من يحبه كأنه قطعة من نفسه، وإذا أبغض فحظ من يبغضه كحظ من يحبه في العنف والتطرف. وكان مثقفا كأوسع ما تكون الثقافة وأعمقها، كان الناس يرونه إماما في الفقه والقانون، ولكنه كان كذلك إماما في اللغة والأدب، لم يكتف هو وصديقه لطفي السيد بما سمعا في المدارس وما سمعاه من شيوخ الأدب، بل كانا يقرآن ويدرسان. ولقد كان يدهشنا نحن المعممين - أن نراهما - وهما من المطربشين - يدرسان القرآن والتفسير دراسة تفطن وتعمق. وقد سمعته مرة يفسر سورة الطور لجماعة من أهل بلده، وينبه إلى أسرار فيها لم يلتفت إليها أحد من المفسرين، ويقول إن جو السورة يمتاز بالحركة السريعة والصور المتلاحقة، وكان يمثل في قراءته آيات السورة هذه الحركة. وأذكر أني أهديت إليه نسخة من كتابي (جنة الشوك) عند ظهوره، وفي اليوم التالي اتصل بي وقال أنه فرغ من قراءة الكتاب ويريد أن يلقاني، فذهبت إليه، وتحدثنا فعرفت أنه قرأ الكتاب من ألفه إلى يائه، وأبدى ملاحظاته فيه وهي ملاحظات دقيقة منها ما يختص بإطناب حيث أحسن الإيجاز وإيجاز حيث يستدعي المقام البسط والتطويل، ومنها ما يختص بوضع كلمة مكان أخرى. . . الخ، ثم دفع إلي النسخة وقد كتب هذه الملاحظات عليها؛ كي أنظر فيها عند إعادة الطبع، ولا زلت أحتفظ بهذه النسخة.

ثم قال الدكتور طه باشا: إننا يوم شيعنا عبد العزيز فهمي إنما شيعنا الجانب الخير الممتاز من حياتنا، فقد كان شطرا خطيرا من حياتنا المصرية التي يجب على الأجيال القادمة أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>