في شمال الدلتا، وكانوا يتمتعون بامتيازات كثيرة تحبب لهم البقاء في مصر.
ومما لا شك فيه أيضا أن اليونان قد استفادت أجل الفوائد من هذه الصلة التي أحيت فكرها، وغذته بلبان المعرفة، وربته حتى شب، وتحرر وانطلق إلى سماء المعرفة يحلق في آفاقها الفسيحة الممتدة، ويتجاوب مع أسرار الكون، ويفيض بنوره على العالمين.
والواقع أن اليونان قد حملت من مصر اللبنات التي أسست بها صرح مدنيتها الشاهقة، وإن الآثار التي يكتشفها الباحثون في أرض مصر الخصبة بالأفكار والحضارة تؤكد هذا. . . فليس خافيا أن مصر أعرق حضارة، وأقدم مدينة من اليونان. . . وقد اكتشف عالم فرنسي خلف الهرم الغربي جثة موظف من عهد الدولة الأولى وجدت على تابوته تلك العبارة (هذه جثة الحارس الأكبر لدار الكتب الملكية) وقد علق الأستاذ (ماسبيرو) على هذا بقوله: إن هذه المكتبة التي كان هذا الموظف الكبير مديرها أو حارسها كانت تحوي بين جدرانها كثيراً من الكتب في الأدب والفلسفة والأخلاق والتأريخ والاجتماع والقانون والسياسة والطب والحساب والهندسة والفلك والسحر والتنجيم. وإن هذا يؤكد لنا أنه قد سبقت هذه الدولة الفرعونية الأولى بأمد طويل حياة حافلة بشتى المعارف والعلوم. . . وإن هذا أيضا يجعلنا نستحث علماء الآثار والباحثين لكي يستجيبوا للنداء الحار المنبعث من أوراق البردي وغيرها من الآثار الراقدة في المتاحف وفي جوف الثرى. . ذلك النداء الملح الذي يدعوهم لبعثتها وإحياء ما فيها من أفكار ومعارف وليس أدلة على قوة الروح العلمية التي كانت سائدة في مصر من هذه المدارس التي كانت منتشرة في أنحائها، تحفل بشتى المعارف والعلوم) فقد كان المصريون يحبون العلم، ويحضون أبناءهم عليه، ويرونه أشرف مطلب للإنسان في الحياة. . . وكانت لهم مدارس تعلم القراءة والكتابة والحساب والهندسة والطب والفلك والنحت والتصوير والموسيقى وغير ذلك من العلوم والفنون، وكانت مدارسهم هذه منتشرة في كل إقليم، وكانت في الغالب ملحقة بالمعابد. ومن مدارسهم الكبيرة التي اشتهر ذكرها، والتي يمكن أن تسمى في التعبير الحديث جامعات، مدرسة هليوبوليس (أون)، ومدرسة ساييس (ضا الحجر) ومدرسة هرموبوليس (خمينو أو أشمون) ومدرسة طيبة، ومدرسة أبيدوس (العرابة المدفونة) ومدارس أخرى مختلفة.
ولا شك أن كثيرا من مفكري اليونان قد تتلمذ في هذه المدارس على أساتذة مصريين ونهل