بي في طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.
لقد كان يتجاذب النفوذ في بلاط المعتصم حزبان كبيران: العرب ومن يعتصب لهم، والأعاجم ومن ينتمون إليهم. وكان رأس الحزب العربي القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وهو أحد من حاكموا ألأفشين. وقد عاش في كنف المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل على التوالي فلقي منهم الإكرام والتبجيل جميعا. وكان ركن العرب عندهم وملاذهم الحصين، يشفع في مسيئهم فيشفع، ويلتمس الثواب لمحسنهم فيثاب.
وهو الذي استخلص أبا دلف العجلي من براثن الأفشين حين اعتل عليه ورام قتله، وكشف الغمة عن خالد بن يزيد الشيباني حين علقت به حبائل الدسائس وأمر المعتصم بنفيه إلى الحجاز وقد انضوى أبو تمام تحت راية هذا الحزب العربي بحكم طبيعته ونشأته وبتأثير من أدبه وثقافته. . وحسبك للتحقق من ذلك أن تسمع قوله لابن أبي دؤاد في بعض مدائحه:
أخذت بأعضاد العريب وقد خوت ... عيون كليلات وذات جماجم
فأضحوا لو اسطاعوا لفرط محبة ... لقد علقت خوفاً عليك التمائم
ولو علم الشيخان: أد ويعرب ... لسرت إذاً تلك العظام الرمائم
تلاقي بك الحيان في كل محفل ... جليل، وعاشت في ذراك العمائم!
والعمائم تيجان العرب كما قالوا، والشاعر هنا يكنى بها عنهم. . وندع الآن البحث في موقف الأفشين، مبغيا عليه أو باغيا، لنتحدث عن قصيدة أبي تمام التي نكرر أنه إنما أنشأها معبرا فيها عن شعوره وشعور عامة المسلمين في وقته؛ فهي من هذه الوجهة كلمة صادقة تفيض بالأحاسيس القوية، وآية من آيات الطائي لها على الأدب حق التسجيل.
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
ملك غدا جار الخلافة منكمو ... والله قد أوصى بحفظ الجار
يا رب فتنة أمة قد بزها ... جبارها، في طاعة الجبار
بمثل هذا الإنذار القوي العنيف يبدأ أبو تمام قصيدته. وكأنما هو يحاول أن يصك به آذان هؤلاء الموالي جميعا ممن ركبوا رءوسهم فتطاولوا على الانتقاص من كرامة العرب، بل حاولوا أن ينالوا بالأذى ولي نعمتهم المعتصم وهو الكفيل أن يهلك كل متجبر فيهم، امتثالا لأمر الجبار سبحانه في أمثالهم من أهل البغي.