ثم ما أسرع ما ينفذ أبو تمام إلى أول المعاني الخطيرة التي أعدها لهذا المقام، فالأفشين قد أوتي نعمة لم يبرها ولم يحسن القيام عليها لأنه غير كفء لها. فهو حري إذا أن يسلب هذه النعمة ولا كرامة، وأن يلقى بعدها الخسران والبوار جزاء وفاقا:
جالت بحيدر جولة المقدار ... فأحله الطغيان دار بوار
كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنها في غربة وإسار!
كسيت سبائب لومة فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار
وتكرير التصريع في البيت الرابع من القصيدة (جالت بحيدر جولة المقدار) ينم على تدفق القريحة بالشعر، وانطلاق السجية فيه إلى مداها. فالمعاني تترافد على نفس الشاعر، والقوافي تقتتل في سبيل احتلال مواضعها من أبيات القصيدة. . وما بقى على السامع إلا أن ينتظر الروعة والجمال، والإبداع والافتتان.
وبعد أن يسجل أبو تمام مخادعة الأفشين لأمير المؤمنين، وكيده الذي ارتد إليه فأوبقه، وما كان يبيته لهذا الدين من شر ألبسه الله خزيه وعاره - يعود فيسجل العذر البين للمعتصم في اصطناع هذا الخائن، وفي غفلته سنين عما يبطن من النفاق، ويعتقد من الكفر والخلاف. فمثل هذا أمر قد تعرض له الرسول عليه الصلوات من قبل، وهو المعان من ربه ومن رأيه ومن مشورة صحبه بأعظم العون. وتعرض له أيضا الكرام الخيرة من آل هاشم:
هذا النبي وكان صفوة ربه ... من بين باد في الأنام وقار
قد خص من أهل النفاق عصابة ... وهمو أشد أذى من الكفار
واختار من سعد لعين بني أبي ... سرح، لوحي، الله، غير خيار
حتى استضاء بشعلة السور التي ... رفعت له سجفاً عن الأسرار
والهاشميون استقلت عيرهم ... من كربلاء بأوثق الأوتار
فشفاهم (المختار) منه ولم يكن ... في دينه المختار، بالمختار
حتى إذا انكشفت سرائره اغتدوا ... منه براء السمع والأبصار
وهذا توجيه بارع لموقف المعتصم، وتعزية جميلة له في خطبه، فالأفشين صنيعته، ومجده صنع يديه. وهذه الخيانة إن دلت على شيء فإنما تدل على سوء الاختيار وخطأ التقدير،