طريق السلامة. فلم يكترث لقولي. ويظهر أن النوم كان قد أراح عقله وجسمه نوعا، فنهض في نشاط وقال: هيا بنا مغمغما بكلمات لم أتبينها، ثم اعتمد على كتفي بإحدى يديه وأخذنا نسير وقد عولت هذه المرة أن أتبع مسيل الوادي من غير انحراف، فأخذت طريقي مع مجرى السيل خطوة خطوة، وكان جسمي وعقلي متعبين. وعيناي غائرتين ضعيفتين. وعلى الجملة كانت حالتي سيئة، وكنت أشعر بيده على كتفي كأنها حجر ثقيل. فكنت أنقلها من كتف إلى كتف من غير أن أزعجه في سكونه. بعد أن سرنا على هذه الحال ساعة ونصفا انكشفت أمامنا أضواء شديدة ساطعة انشرح لها صدر صاحبي وعاودته بشاشته، فأخذ يمزح ويعيب هيئتي الرثة، فوجهي مغبر شاحب، وطربوشي من الأمطار فقد شكله وأصبح متهدلا كاسيا رأسي حتى أذني، وبدلتي تقلصت وضاقت؛ فارتفع طرف بنطلوني إلى قرب ركبتي واسترخى جوربي، فغطى حذائي وامتلأ الحذاء بالماء والوحل، وعلى الجملة فإن شكلي كان مضحكا وهيئتي تدعو إلى الشفقة والرثاء.
بعد أن فرج صاحبي بعض كربه بأمثال هذه المهاترة سألني فيم أفكر؟ فقلت أني أستغرب وجود هذه الأضواء الشديدة في هذه البقعة؛ فقال مازحاً: لا تستغرب فربما كان الجن قد نصبوا لهم هنا عرسا، فقلت تعوّذ بالله فحسبنا ما أصابنا هذا اليوم. وبينما نحن في هذا الحوار سمعنا صوتا غريبا يرن في الفضاء، فوجمنا لهذه المفاجأة الجديدة ثم أنصتنا بشدة خلت معها أني أسمع دبيب الحشرات في بطن الأرض، وأخذنا نحدق يمينا وشمالا عسى أن نهتدي لمصدر الصوت فلم نر شيئا. وبينما نحن في اضطراب وحيرة رن الصوت في الفضاء ثانية، وكان في هذه المرة جليا: سمعنا (هولت!)(هولت!) فقلت لصاحبي بلهفة: قف! فقال ما الخطب؟ قلت يظهر أننا في وسط معسكر للجنود الإنجليزية، فقال يا سوء المصير! فقلت له اطمئن ولا تخف، وبعد قليل تقدم إلينا ثلاثة من الجنود الإنجليزية مدججين بالسلاح وسألونا هل معكم سلاح؟ فأجبنا مأخوذين ليس معنا سوى هذه العصا. فقالوا تقدما، فتقدمنا ثم قادونا إلى خيمة قريبة مضروبة بالقرب من المعسكر فوجدنا بها ضابطا شابا على كرسي وأمامه منضدة وهو مشغول بالقراءة في كتاب أمامه. فلما لمحنا نظر إلينا شزراً وسألنا وهو يتثاءب: هل أنتما هاربان من المعسكر؟ فأجبت: لسنا جنودا، فقال بخشونة: أقصد أنكما أسيران هاربان من المعسكر، فقلت: عفوا لسنا من الأسرى،