آفات نفسه برياً، ومن المساكنات والملاحظات نقياً، ودام في السر مع الله تعالى ومناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجربه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة وفي الجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه عز وجل).
من هذا النص يتبين لنا أن المعرفة لا تكون إلا بصدق المعاملة والتنقي من الأخلاق الرديئة والآفات السيئة والاتجاه بالقلب نحو الله، ولا تتم كذلك إلا بانقطاع هواجس النفس وخواطرها، وهي بهذا المعنى ترمي إلى الاتصاف بالكمال الأخلاقي.
ولكن مع إدراكنا لأهمية الغاية الأخلاقية في المعرفة لا نستطيع أن نقرر أن هذه الغاية الأخلاقية هي أسمى غايات المعرفة عند الصوفية، إذ أن هناك غايات أسمى وأرقى، هي الوصول إلى الله وبالتالي إلى السعادة الأبدية الخالدة واليقين الذي لا يأتيه الشك من أي جانب. فالمعرفة الصوفية لها غاية عرفانية إلهامية موصلة إلى السعادة واليقين في الدارين.
يقول أبن عربي في الفتوحات (ثم إذا وصل العبد إلى معرفة الله تعالى فليس وراء الله موسى ولا مرقى، فهناك يطلع كشفاً ويقيناً على حضرات الأسماء الإلهية.)
والحق كل الحق أن غاية الإنسان في حياته هي أن يصل إلى نور اليقين بعد ظلمات الشك، فيتعرف على كنه الوجود الذي يعيش فيه، ويتعرف على ماهيته ومصيره، تعرفاً من شأنه أن يلقي السكينة على قلبه. فهل استطاع العلم في عصرنا هذا أن يفسر لنا ماهية الوجود أو الحياة تفسيراً ترتاح أليه قلوبنا؟ والجواب على ذلك هو أن العلم وما يصطنعه أصحابه من مناهج تجريبية أن يكشف لنا الآن عن حقيقة ما من هذه الحقائق التي لا سبيل إلى كشفها بطريق عقلي أو تجريبي، ولا يزال عالم الروح بالنسبة إلينا مجهولاً. ثم هناك أمر آخر أشد ما يكون غرابة وهو إنكار المنكرين على الصوفية لأذواقهم ومواجيدهم ومكاشفتهم، فهذا الإنكار لا يقاوم على أساس ولا يستند على منطق سليم، فقد رد الصوفية على منكريهم أن سلكوا سبيلنا وانهجوا نهجنا ولكم بعد ذلك أن تحكموا علينا، ولكن الحقيقية أن المنكرين أنكروا عليهم علومهم، وقد غرقوا في بحار المادة وكبلوا بقيوده الحسرة.
وجماع القول فيما سبق هو أن اليقين كل اليقين في الاتصال المباشر بالله عز وجل اتصالاً من شأنه أن يبدد لنا ظلمات الشك بمعرفة كنه الوجود، وما وراء العالم المحسوس من