تستوعبه عقولهم الساذجة المحدودة بحدود تلك الحياة الضيقة، ولكن نور الإسلام قد غمرهم عمراً ونفذ إلى عيونهم ونفوسهم وعقولهم، وحولهم في بوتقته العظيمة المقدسة إلى مؤمنين بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فاطمأنت نفوسهم بالإيمان وامتلأت بالفضائل الإسلامية، فدفعهم الإيمان من جزيرتهم القاحلة الضيقة إلى العالم الواسع الزاهر هداة مبشرين وقادة فاتحين فتحولت من قول الشعر إلى تلاوة القرآن، ومن الفرقة الجاهلية إلى الوحدة الإسلامية ومن المفاخرة بالأحساب والأنساب إلى المفاخرة بالسبق في دخول الإسلام. ومازال العرب كذلك حتى بردت حرارة الإيمان في نفوسهم فبدت ميولهم الكامنة ورغباتهم المستورة تطل من عقولهم الباطنة حتى أصبحت الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً، وانقسموا على أنفسهم ورجعوا إلى عصبياتهم النائمة فبعثوها بمفاخرتهم بالأحساب والأنساب وبالسبق للإسلام، أيضاً ليتخذوا من هذا وسائل لتعضيد الملك وتعزيز السلطان، فنشأ من هذا أدب سياسي ولكنه حزبي، فهناك علي بن أبي طالب وهناك معاوية بن أبي سفيان، وعزز كل منهما نظريته بالسيف والقلم واللسان، فكان النضال العنيف الذي أنتج هذا الأدب السياسي الحزبي، وأنتج هؤلاء الخوارج الذين تركوا هم الآخرون ظلهم واضحا على صفحة الأدب العربي، كما تركوا أثرهم قوياً على صفحة التاريخ الإسلامي، فأخذ الأدب العربي في عهد بني أمية هذا الاتجاه الذي عيناه ولكنه على كل حال كان أدباً قوياً، بصور العزة العربية لابسة ثوب الإسلام ناعمة ببلاغة القرآن، ولم يستتب الأمر لبني أمية حتى انقسموا في أمورهم الدنيوية وأصبح الأدب أداة لتسليتهم وتبرير سياستهم وتصرفاتهم الحزبية، ولكن كان في هذا الوقت للخوارج أدب يمثل قوة عقيدتهم وقوة دفاعهم عن هذه العقيدة رغم انصباب بني أمية عليهم ورغم القسوة التي عاملهم بها قواد بني أمية ولاسيما الحجاج بن يوسف الثقفي وستر أدب الخوارج القوى ضعف أدب الأمويين. فقد كنت تسمع لشاعر الخوارج أو قائدهم القطعة من الشعر التي تحمل من قوة الإيمان وقوة النزوع في سبيل هذا الإيمان ما يجعلك تحس بسر البطولة والعبقرية وهاك هذه القطعة من هذا الأدب الخارجي:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي