فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
وما حل العهد العباسي الفخم بسعة الملك وامتداد السلطان ووفرة الغنى وتلون الملاهي وتمدد اللذات حتى أصبح لأدب العربي أدب ضعف وخنوع، وانقياد وخضوع أدب خلاعة وتهتك وفجور، واستهتار وزندقة وإلحاد، فأصبحت ترى قصائد المدح الذليل تساق للأمراء والعظماء، ووصف النساء والغلمان والخمر يملأ مجالس الأدب، والمفاخرة بالزندقة والإلحاد والشعوبية تدور على الألسنة في كل مكان.
بينما كان المجتمع العباسي حافلاً بكل هذا كانت الحوادث تنسج لأكفان لهذا الملك الضخم فمدت فيه الفساد وامتدت أيدي النساء والمماليك والعبيد إلى صولجان الحكم فأخذوا يستعملونه أداة لإشباع شهواتهم، وإرضاء رغباتهم، فتزلزل الملك ثم انهدم. وأما الأدب في هذه الأيام الضاحكة الباكية الحافلة بالملذات والملاهي الاجتماعية، المترعة بالآلام والمصائب السياسية والحزبية، فقد كان صورة قائمة لحياة هذا المجتمع القائم يورث النظر إليه الهم والألم لولا ومضات من نور القوة كانت تلمع في سماء ذلك الأدب الحزين الباكي ثم تنطفئ، وكان مصدر هذه الومضات نفوس متألمة مما حل بالعرب والإسلام من النكبات كنفس المتنبي الكبيرة الثائرة التي انفجرت بالشعر القوى المدوي المجلجل في سماء الأدب، ونفس أبي فراس الشاعر البطل الذي أبلى في ميدان الشعر بلاءه في ميدان الحرب. بينما هذا كان يقع في الشرق كان ملك بني أمية في الغرب قويا قاهراً والأدب في ظله زاهياً زاهراً، حتى عصف الدهر على الملك العربي الإسلامي في الشرق والغرب، فانقرض ولم يبق للسلطنة العربية صولة، ولا للأدب العربي دولة وأصبح العرب أشتاتاً في كل أرض وأوزاعاً تحت كل سلطان، وأما الأدب فانمسخ انمساخاً حتى اصبح معه علالات النفوس الضعيفة والعقول الفارغة من الجدل اللغوي العقيم والنقاش البياني الفارغ، حتى جاء القرن التاسع عشر بما فيه من أحداث فبدأ الأدب العربي يتململ في مرقده ويتماثل للنهوض من كبوته.