التحرير مهيض الجناح. . ومنكسر الخاطر. . منطوياً على نفسه. . تاركاً عنان حياته للقضاء والقدر. . فلا يدري ما يخبئ له الزمان. . ولا يعلم ما يضمر عنه الغد. وظل صابراً على الأذى، مقيماً على الضيم والحرمان. . حتى امتدت يد المنون إلى منزله. . وسلبت والدته من حياته فتركته وحيداً مفرداً. . لا أنيس له. . ولا رفيق يشاركه لوعة حرمانه. . وعذابه. . وشقائه. .
ولم تمض مدة على وفاة والدته حتى تسرب الملل إلى نفسه، ورأى السأم في حياته. . فأحاطت عيشه هالة دكناء. . وغمرت بيته. . فإذا بالوحشة تتمثل أمام عينيه وتتراءى له عن كثب كأنها أشباح تتراقص وتزغرد لتسلب منه كسرة الخبز التي يتناولها كل يوم مرة. .
فقد الأمل. . وضاع الرجاء. . دون أن يهتدي إلى شعاع يستمد منه السعادة المسلوبة. . وكان بين حين وآخر يستلق على مقعده ويحدث نفسه: يا إلهي. . ما هذا الشقاء البرم. . وما هذه الحياة الدكناء. . ألا تعساً لها. . وسحقاً لمن يرضخ إليها. .
وذات ليلة دخل غرفته كعادته. . متهالكاً على نفسه. . يجر خطاه جراً. . وألقي نظرة على أثاثه الذي أكل الدهر عليه وشرب وجلس وراء مقعده ليشرع في كتابة قصة للجريدة. . والتفت إلى نار المدفأة. . فرآها خامدة كحياته، لا أثر لها وأراد أن يوقدها. . دفعاً للبرد القارس ووقاء من الزمهرير العاتي. . وفتش عن عود ثقاب. . فلم يجد وهم بالنزول لشراء علبة جديدة ولكنه تريث قليلاً إذ طرأ على فكرة أن يفترض واحدة من جارته العجوز (أم ماتيو) التي فقدت أبنتها الوحيدة بعدما ترملت وخلفت طفلا لترعاه جدته العجوز. .
طرق جان الباب على الأم ماتيو. . ليسأل حاجته منها. . ففتحت له. . وألقى نظرة عليها فرآها وقد أضناها التعب وأنهكتها الفاقة. . ومد بصره إلى الداخل. . فشاهدها وقد جمعت فراشها. . وحزمته على ضوء شمعة ذاوية. . فبادرها: ماذا تفعلين. . وأي شيء تصنعين. .؟؟ وما السبب الذي دعاك لأن تربطي الفراش. . فأجابته بعد ما طفرت الدموع من عينيها: إنك كما ترى. . لقد صممت ان أذهب. . وأرهن فراشي مقابل مبلغ. . لأني في حاجة قصوى إليه. .