هذا كله ساد ويسود، والنفوس خاضعة له مستسلمة، فأينما وجهت نظرك لا تجد براً ولا فاجراً، عالماً ولا جاهلاً، كبيراً ولا صغيراً، استطاع أن يجعل الأخلاق والكفاءة والإخلاص في العمل هي المقياس.
كن أنحى من سيبويه، وأفقه من الشافعي، وأنفذ بصراً من ابن سينا، وأنور بصيرة من الحسن البصري، وكن بجانب ذلك صريحاً في الحق، لا تخشى في الله لوم لائم، ولا تداهن ولا تتملق ثم من أنك ستموت جرعاً.
وكن على ما شئت من خلق شئ، وخذ حضك وافراً من الجهل، وقسطك وافياً من الغباء، ولكن صانع الرؤساء وتملق الكبراء، وكن أداة طيعة في يد من يريد، ثم ثق أنك ستحيى حياة طيبة، وستنعم بموفور النعم، ورغداً لعيش، وسترأس أقرانك، وتغلب نظراءك، وتصل إلى أرفع المناصب.
رأيت كل هذا، وسمعت بكثير مثله، لا يخلو منه بلد من البلدان، ولا يتورع عنه رئيس من الرؤساء. ثم رجعت إلى بطون التاريخ أتعرف أحوال تلك الأزمان، وأبحث في سلوك الماضين، وحظوظهم، فرأيت عالم العربية الأكبر الخليل بن أحمد مخترع علم أوزان الشعر، وواضع أصول فن الموسيقى، ومبتكر أول طريقة لوضع المعاجم العربية، وصاحب الفضل الأكبر على النحو العربي، رأيته يسكن في خص، ويعيش على كسر الخبز اليابسة الجافة، لأنه لم يتصل بأمير أو وزير، ثم رأيت الناس يأكلون بعلمه لباب البر بجني النحل!
وخطوت إلى الأمام خطوة فإذا أديب العربية الأكبر أبو عثمان الجاحظ يشكو مما نشكو منه، ويكتب رسالة لأحد أصدقائه، ينعى فيها على دهره، ويألم لقلة من يثق به من الناس لاستحالة الزمان، وفساد الأيام، ويبكي على الماضي حين كان الصديق والحياء، وإيثار الحق مطية السلامة. وسبب النعمة، ولكن الحال تتحول، والدولة تتبدل، فيصبح (الحياء متصلاً بالحرمان، والصدق آفة على المال، وتصير الحظوة البالغة، والنعمة السابفة، في المثالب الفاضحة، والكذب المبرح، والجهالة المفرطة، واليقين الضعيف) وكل من كانت هذه صفاته يستكمل سروره، وتعتدل أموره، ويفوز بالسهم الأغلب، والحظ الأوفر والقدر