أم الأيام العدوية، فنقول: هل بعد البزول إلا النزول؟ أم الأيام التيمية ونقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام، أم على عهد الرسالة، وقيل اسكني يا رحالة: فقد ذهبت الأمانة، أم في الجاهلية والبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الأهل أهل والبلاد بلاد
أم قبل ذلك وقد قال آدم عليه سلام
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
أم قبل ذلك والملائكة تقول (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)؟
هذه هي الحياة.
ولكن أليس في الناس من ينظر إلى الأمام البعيد، أليس فيهم من يثق بنفسه وإيمانه، ويؤمن أن كل ما في أيدي الناس من مال وجاه إنما هو باطل وزور، وأنه مهما عظم لا يعدل حبة خردل تنتقض من كرامته؟
أليس في الناس من إذا أقدم على عمل تلمس فيه حكم الضمير والخلق، وعرضه على ميزان الفضيلة والحق؟
أليس في الناس من يقنع بالقليل، ويرضى بالكفاف، ويحتفظ بما لنفسه من كرامة، ويضمن بها أن تكون مستعبدة للمنافع، خاضعة لذل العيش؟
بلى؛ إن في الناس من هؤلاء أعزة، ولكنهم - غالباً - يعيشون على هامش الحياة، فلا يلبث أحدهم أن ينطق كلمة الحق حتى تمسك الزبانية بتلابيبه، وتهدد المكايد مركزه، ويعيش في هم ونكد - على ما يرى الناس - ولكنه يعيش من رضا ضميره، وصفاء نفسه، وسمو قلبه، في جنة وارفة الظلال، وسعادة لا تعد لها سعادة.