وتتداعى حماسة الثائرين إلى لواء زعيم الصلف والفظاظة أبي جهل فيصوغ مشاعرهم صرخات موحشة (والله لا نرجع حتى نأتي بدرا فنقيم عليها ثلاثا، نشرب الخمور، وننحر الجزور، وتعزف علينا النساء، وتسمع بنا وبمسيرنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر)
بيد أن صوت العقل لا يضل طريقه وسط هذا الضجيج، وكلمة الفصد والحكمة لا يحجبها عن الآذان صليل هذه البيض، بل تنطلق قوية رزينة مسببة مفحمة على لسان صنديد قريش الأول وزعيمها المطاع عتبة بن ربيعة (يا قوم ما حاجتكم أن تلقوا محمداً غدا وقد سلمت لكم أموالكم ورد الله عليكم رجالكم، إنكم إن لقيتموه فأصاب منكم وأصبتم منه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قد قتل أباه أو ابن عمه أو ابن أخيه. يا قوم ما يضركم أن تدعوا محمدا والناس، فإن أصيب بيد غيركم كان ذلك الذي أحببتم، وإن كانت الأخرى لقيتموه غدا ولم تعدموا منه ما تريدون)
ويسترسل عتبة، ومن ورائه جهابذة قريش وجلة أبطالها وحكمائها؛ كحكيم بن حزام وسهيل بن عمرو، في استدراج قريش إلى وضع السلاح، وإقناعهم بحقن الدماء، في منطق تتساوق أدلته إلى الإفهام، وأسلوب توشك حججه أن تؤثر في الصم الصلاب، حتى يفضي إلى التعرض لحمل التبعة جميعا وينتهي استجابة لداعي العقل والحكمة - إلى التضحية بذكره في مجال الشجاعة وهو فارسها المجلى، والنزول عن حظ نفسه من الثناء والشهرة، وهي خير ما يحرص عليه صنديد عربي، فيقول في ختام هذه الدعوة (يا قوم. اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم).
لقد كانت هذه الكلمات من سيد شجعان مكة والمع أبطال قريش جديرة أن ترد السهام إلى كنائنها، وتوسد السيف بطون أغمادها، وتلجم الضوامر الثائرة بشكائمها، فتنساب في مكة هدأة الأمن، وتغشاها من جديد طمأنينة السلام. ولكن العروبة قرينة العنف في حقها وباطلها، وتربية الصحراء أليفة الثورة في إيمانها وكفرها.
(لا يَسألُونَ أخاهُم حينَ يَندِبُهُم ... في النائِباتِ على ما قالَ بُرهانا)
وهكذا غلب ضجيج الحماقة على صوت الحكمة، وفتكت شرة الحرب بدعوة السلم فخرجت قريش بخيلها ورجلها تحاد الله وتكذب رسوله وتبغي في الأرض الفساد. وكذلك ساخ في