للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحادثة القصصية أو النموذج البشري مما يقع كل يوم في محيط اللقطة البصرية والنفسية؛ أعني مرة أخرى أن تكون تمثلنا للحوادث والشخصيات تمثيلا شعوريا لا ذهنيا عندما تقارن بين حقيقتها على الورق وبين حقيقتها في الحياة. هذا هو اللون الأول وهذه هي مظاهره، أما اللون الثاني من الواقعية وهو ما نعبر عنه بـ (الواقعية الثانية)، فهو التصوير (التقليدي) لا (الطبيعي) للحوادث اليومية والنزعات الإنسانية. أو هو تلك النسخة من الحياة التي يمكن أن نقول عنها أنها (قريبة) من الأصل، ولا يمكننا القول بأنها (طبق) الأصل، ونسخة كهذه منهما اقتربت من الواقع فهي نسخة (مقلدة) على كل حال. . وقد يكون الفن في جوهرة تقليدا للحياة، ولكن رسالة الفنان هي أن يشعرنا بأن المشهد الذي بصوره أصيل لا أثر فيه للمحاكاة.

وألا يترك لنا فرصة للشك في أن هناك اختلافا بين الصورة الحقيقية والصورة المنقولة، أو أن هناك حلقة اتصال مفقودة بين الواقع والمثال!

نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة هو ذلك القصاص الذي يمثل (الواقعية الثانية) في الكثير الغالب من الأعيان. ولست أنكر أن بالواقعية الأولى مجالا في فنه، ولكنه المجال (المحدود) تبعا لطريقته الفنية التي تغلب عليه في كتابة القصة. هذه الطريقة الفنية أساسها أن نجيب مولع بأن يضع كثيرا من نماذجه البشرية تحت مجهر التحليل النفسي، ليتخذ من سلوكها الإنساني مادته الرئيسية في تحليل ما يقع تحت المجهر من (حالات مرضية (! قل إذا شئت أنه يطبق بعض الأصول من (علم النفس المرضي) على كثير من أبطال قصصه (المنحرفين) وأنه تبعا لهذا التطبيق يفرض عل فنه أن يسير في خط اتجاه نفسي محدد تدور فيه الشخصية (المريضة) من البداية إلى النهاية؛ تدور فيه بقوة الدفع (المرضية) التي تبرر سلوكها في محيط (الواقعية الثانية). . من هنا يخرج نجيب بعض الشيء عل منطق (الواقعية الأولى)، لأنه يجبر حوادث القصة وحركات الشخوص على أن تسير نحو غاية معينة، تحقيقا لمنهجه الفني الذي يلتمس عند النتائج المادية تفسيرا للظاهرة النفسية أو تشخيصا (للحالة المرضية). وتشعر أن التشخيص النفسي لهؤلاء (المرضى) غير سليم في بعض الأحيان، ومرجع هذا الشعور إلى أن سلوكهم مفروض عليهم فرضا ولا يملكون فيه حرية الاختيار! هنا مفرق الطريق بين واقعيتين: (الواقعية الأولى) و (الواقعية الثانية).

<<  <  ج:
ص:  >  >>