للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذه صورة (تقليدية) للحياة كما قلت، وتلك صورة (طبيعية). وموقف الفن بينهما واضح عندما نضع أنفسنا أمام هذه الحقيقة، وهي أن النموذج البشري في حدود الواقعية الأولى موجود في الحياة (بالفعل)، وأنه في حدود الواقعية الثانية موجود في الحياة (بالإمكان). . أي أننا إذا رجعنا إلى بعض الشخصيات التي رسمها الأستاذ نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة، وسألنا أنفسنا هل هي موجودة بيننا حقا تروح وتجيء، وتقع عليها العين وتدركها الحواس، ونشعر نحوها بشيء من الألفة التي تخلق بيننا وبينها نوعا من المشاركة الوجدانية؟ إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال فإننا ننتهي إلى هذا الجواب: وهو أنها غير موجودة (فعلا) ولكنها (ممكنة) الوجود؛ أي أن وجودها غير متعذر لأن منطق الحياة يهضمه إذا (وجد) وكذلك طبيعة الأحياء. ومن هنا نلتمس الفارق الدقيق بين كلمتين: (موجود). . و (ممكن إن وجد)، وبالطبع لا يضيق الفن بالكلمة الأخيرة وإن كان يفضل الكلمة الأولى بلا مراء!!

هذا عنصر من العناصر الفنية كان ينقص نجيب محفوظ. وثمة عنصر آخر كان ينقصه، وأعني به (التذوق الشعوري) الكامل للحياة. . هناك قصاص فهم الحياة حق الفهم وخبرها كل الخبرة، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدر معلوم لا يتناسب وخبرته العميقة وفهمه الأصيل؛ فما هو الفارق بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) في حياة القصاصين؟ لتوضيح هذا الفارق الفني نقول: إنك تفهم الشيء بعقلك ولكنك تتذوقه بشعورك، أعني أن الفهم أداته الذهن الفاحص، وأن التذوق أداته الإحساس الرهيف. . إنهما طاقتان: طاقة عقلية وطاقة شعورية، والذين قويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية هم الذين تتوقد في نفوسهم شعلة الفهم، وتخبو شعلة التذوق، بالنسبة إلى كل قيمة من قيم الأشياء وكل معنى من معاني الحياة.

إن هناك مثلا من (يفهم) قصيدة من الشعر؛ يفهم فيها اللفظ والمعنى، ويفهم فيها الوزن والقيافة، ويفهمها شرحا أن طلبت إليه الشرح والتفسير. ومع هذا كله فهو لا يستطيع أن (يتذوق) فيها الوحدة الفنية، ولا الظلال النفيسة، ولا التجربة الكبرى وهي مصبوبة في بوتقة الشعور. . وقل مثل ذلك عن الذي يفهم (النوتة الموسيقية) للحن من الألحان، ثم لا يتذوق جمال اللحن، ولا يهتز فيه لروعة الإيقاع، ولا يستجيب لأنغامه التصويرية!

<<  <  ج:
ص:  >  >>