حانوته ويقيم معه في ركنه المعد لضيفانه، زمنا ليس بالقليل بل ربما كان (ولي الدين) من خاصة خلصانه الذين أدمنوا القبوع في ركن حانوته الوثير وفي الليلة المذكورة وفدا إليهن وفاء لموعد اتفقا عليه، ليجتمع إلى سمرها طائفة من الأصدقاء، يطالع بعضهم بعضا بالجديد من أخباره واللذيذ الممتع من قصصه، والخفي من مذخرات علمه.
وكان علم الدين، وولي الدين، من يجلس إليهما، قد اعتادوا أن يتناولوا في مجالسهم أخلاطا من مسائل شتى قد لا تجمعها جامعة، إلا مناسبات استطرادية تافهة، وهي ما بين روايات أدبية، وطرف فكاهية، وأحاديث سياسية، ونقدات اجتماعية، ومساءلات فقهية، وعظات تاريخية، ونحو ذلك.
وقد يحمي بينهم وطيس الجدل والنقاش. وقد يسفل بهم الحديث وخفه ولجاجة، إلى مجانة ممجوجة، ودعابة مكشوفة، وقد يرتفع بهم الحديث، فيسمون إلى أعلى المقامات. . فينقدون النقد المر اللاذع حقاً كان أم باطلاً. . . صواباً كان أم خطأ. . . حتى إذا ما انفض سامرهم، وانقضى مجلسهم، انفض كل شيء من حديثهم فيه، وانقضى. ولم يبق في ذهنهم ولا لسانهم من أثره شيء وإن علقت أشياء منه بنفوسهم ولونت عواطفهم.
غير أن خطر هذا الحدث - إن كان ثمة خطر - لا يتعدى دائرة هذا الحانوت. . . وما كان لخطره أن يتعداها. . . لأن هؤلاء المتحدثين أشباه مثقفين، ثم لبس لهم صلة وثيقة بالعامة تجمعه معها على رأي: وليسوا بواجدين من يصيخ لهم إذا أهابوا، أو إذا دعوا. ثم إن العامة غافلة لاهية، وحولها هذا النطاق الحديدي للضروري من السلطان وأمرائه ورجال دولته.
ثم ما لهؤلاء والجهاد والكفاح وهم لم يجتمعوا قط إلا لتسلية وقطع وقت فراغ؟
هبت أنسام الليل وانية لطيفة، فأيقظت من الأذهان راقدها، وأنشئت من النفوس كاسدها، وكان الجمع قد التأم شمله: وانتظم عقده، ومن بينه أديب يتعاطى الشعر يدعى (شهاب الدين) ومتعمم من مستوفى الدولة يسمى (زكي الدين)، وتاجر من جيران علم الدين، ولقبه (غرس الدين)، وآخرون على غرارهم.
قال الشيخ ولي الدين: ما أجمل هذه الأنسام، وما ألطفها، وما أرق فؤادها، وما آسى يدها، إنها لتسري إلى النفس فتبعث يها نشوة غريبة، وتهزها هزة الفرح والسرور والابتهاج،