للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كأنما تعطف بها على أهل الأرض سكان الجنة.

أما الأمس فقد شقت الهاجرة علينا عصا الطاعة - على غير عادتها في مثل هذا الوقت - ولفحتنا بصفات حامية من يديها متوالية. وقد عاونتها علينا تلك الرمال السافية اليقظى التي كانت ناعسة الجفون في حضن الجبل، فحركتها الرياح من سباتها، وأقلقتها من مضجعها، وشهرتها سلاحاً تؤذي به من يعترض سبيلها. . .

فقال التاجر غرس الدين: وأين كنت يا مولانا الشيخ في ذلك الوقت القائظ؟ إن المرء حين ذلك لتجتمع عليه عدة عوامل تدفعه دفعا إلى منزله، لينال قسطا من النوم أو الراحة. فالحر الشديد، والرياح الشاردة، والرمال الهابية، وانفضاض السوق من التجار والمارة، وآلام الصوم، وما تعانيه البطون من الطوى، كل أولئك يغري المرء بالتماس الدعة والجنوح إلى السكون في عقر داره. . .

فقال الشيخ ولي الدين: حقاً! كل يغري بطلب الراحة والاستجمام: ولكن لي صديقا مريضا، احتجب عن عيني منذ أمد، فوددت أن أزوره وفاء للصداقة وطلباً للأجر. . .! وكنت أخشى أن يضيق وقت الليل عن زيارته. ولقد اضطرت مرارا أن أسير غامض العينين في الطريق حتى لا يؤذيني الغبار. ولا أكاد أفتحهما حتى تقتحمهما ذراته، فتقطر عبراتهما. . .

ثم أتدري ماذا أصابني؟ صادفت حفرة لم أحتط لها، فترديت فيها عاثرا في فضل ردائي، وأصبحت بذلك عبرة للمارة من الصبية وأشباه الصبية ألا اله الهرم وضعفه.

فقال التاجر غرس الدين: هنيئاً لك مرئياً يا مولانا. . .! (ضحك).

فرد الشيخ ولي الدين قائلا: هنأك الله يا بني، وأحسن إليك بأمثالها.

فقال الشاعر شهاب الدين: جاء في الحديث الشريف ما معناه: (إنما الأعمال بالنيات) وقال بعض الشارحين عن هناك مضافا محذوفاً، تقديره (جزاء الأعمال). . . (ضحك).

فقال الشيخ ولي الدين: صه! متى عرفت الفقه والحديث أيها الشعرور. . .؟ لا تلغ فيما لا تعرف. . ولا ترف وكيف. . حسبك أبيات هزيلة تقيم أودها، وقواف نحيلة ترمم جسدها. . ثم تدفع بها بين أسماعنا المصطكة، وتطن بها الذباب. . ألا قاتل الله حمقى زماننا من أمثالك الذي يحسبون أنفسهم في الشعراء وهو لا يحسنون قراءة الشعر وتقويم بيت من

<<  <  ج:
ص:  >  >>