لقد أحب العزلة وعزف عن ضوضاء المجتمع. أو أن حسه المرهف بكر إليه بالحقائق كأنه ينمو نحو من سبقه هاتفا:
بعدي عن الناس بعد عن سقامهم ... وقربهم للحجا والدين أدواء
كان نحيلا كثير الصمت دائم التأمل ولم تكن صحته بعيدة عن العلل، فهذه الحال في جثمانه وتلك في سلوكه وتفكيره وثيقتا الصلة، وكل منهما تدفع بالأخرى في تيارها
فكرة التأمل وطول الصمت توسعان مجال الخيال وإدمان الفكر، فينتجان! كتابا للحياة، وهذا التبرم بالعيش يؤثر بدوره في جسم صاحبه وصحته. كما أن ضعف الصحة يضعف الاحتمال ويرهف الحس عن طريق ضعف الأعصاب
عرضنا مرة في الحديث لحال الريف وأهله وما تقوى به الأواصر من تراحم بين الكبير والصغير وما في التعاون من دفع للبؤس والفقر. . . وإذا به يقص علي في تأثر بالغ أنه شهد أخاه الأكبر يوما ينهال بالضرب على قروي من أهل بلدته لسرقة بعض من أمطار الأذرة، والغريب أن الحادث كانت مضت عليه سنوات، ولكنه حين يرويه بكاد تخنقه العبرات، فهو لا يكاد يسيغه ولا ينساه، وكأنه أبن الأمس القريب!
على أنه في عزلته لا يصل إلى الحد الأقصى من مذهب الشاعر الذي ذكرت فهو لا يعيش
كالبيت أفرد لا إبطاء يدركه ... ولا إسناد ولا في اللفظ إقواء
بل لعله في مذهبه من هذه الناحية أقرب إلى المذهب القائل (الحمية من الناس كالحمية من الطعام شفاء من كل داء) فهو يصون حياءه ويصطفي قليلا من الصحاب يتحامى به جديدا من التجارب
وهو في نظرته للحياة وفي سلوكه بين تياراتها ثابت الوداد أليف الوفاء. . . يتغنى يه طربا حين تبسم له الحياة، ويزفر بذكره راثيا حين يسفر له الماء عن سراب
هاهو ذا يجعل من حفاظه طابع نفسه أو موضع اعتزازه وفخاره
إن خان خل أو بغير صاحب ... فأنا الحري يحفظ عهد إخائي
ويعود للمؤثرات وما يخشى منها على نفسه وعلى هذا الخلق الذي يعتز به فيقول:
وطرحت أهواء الزمان وريبه ... كيلا أسب بخلة الأهواء
وهل من عابث أشد فتكا بالمرء من أهواء الزمان وريبه؟ إن البعد عنهما يجعل من المرء